إصلاح العقلية الجمعية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 4 يونيو 2015 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

ما كان للّذى يحدث الآن فى طول وعرض بلاد العرب من حشد لألوف الجهاديين التكفيريين، ومن حصولهم على مدد ودعم مالى ومعنوى لا ينضب، ومن تعاطف هائل على شبكات التواصل.. ماكان لكل ذلك الجنون أن يحدث لولا وجود خلل تاريخى متجذِّر فى تركيبة ومكونات العقلية الجمعية العربية وعقل المجتمعات التى نشأت عبر القرون.

لقد جرت محاولات عدّة لتشخيص المصادر التى كونت ذلك العقل، والمنهجيات التى يعمل من خلالها، وتأثيرات البيئة وأحداث التاريخ والأساطير الشعبية المتداولة فى الماضى السحيق والأديان المتعاقبة على المنطقة التى عاش فيها العرب أو ما حولها. ووصلت تلك المحاولات إلى نتائج متباينة ولكن بالغة الأهمية.

فى اعتقادى أن ما يهمنا، فى اللحظة الحالية من مسيرة أمتنا العربية، هو العوامل الثلاثة التالية، التى تفعل فعلها يوميا وبتأثيرات بالغة، فى الحياة العربية المليئة بالفواجع وعدم التوازن العقلى:

أولا: الكهنوت الفقهى، فما عادت مؤسسة الفقه الإسلامى تقوم على جهود جماعة صغيرة من علماء الدين المجتهدين والمحدثين. لقد أصبحت شبكة متنامية فى أشكالها وأنواع أنشطتها وساحات عملها ومنابرها وصفات الناشطين فيها امتدادا من العقل والتقوى إلى أقصى درجات الجنون وانعدام الضمير. لقد أصبح تأثير تلك الشبكة على الناس والمجتمعات تأثيرا جارفا وكاسحا لكل الحدود ولكل المناعات السابقة.

بعض هؤلاء يبنون فى الجيل الشاب عقليه متزمتة منغلقة استئصالية، يؤججون فى عقول أتباعهم مشاعر طائفية كارهة حاقدة، يتجرّءون بخفة وانتهازية على منجزات علوم الطب والاجتماع والنفس والسياسة واستبدالها ببحر من الشعوذات والخرافات والقراءات الدينية الخاطئة والكاذبة، يرفضون الكثير من مسلمات العصر بالنسبة لحقوق الإنسان، وعلى الأخص حقوق المرأة المسلمة، ولأسس الحكم الصالح، وعلى الأخص الديموقراطية، يضعون هالة من القداسة على شخصيات وأحداث تاريخية منتقاة لخدمة أغراض سياسية انتهازية نفعية.

نحن بالفعل أمام محاولة من قبل البعض لبناء مؤسسة كهنوتية مشابهة للكهنوتية الكنسية فى القرون الوسطى. وهى لا تترك مجالا من مجالات الحياة العربية إلا وتحاول الهيمنة عليه من خلال إعلاء يصل إلى حدود القداسة لتراث فقهى يعرف القاصى والدانى أن فيه الغث المدسوس المخالف لروح الإسلام السمحة وعدله.

ثانيا : السلوكيات القبلية البدوية، فكثير من الأعراف والممارسات البدائية التى حاربتها الثورة الإسلامية المحمديُة ولم تنجح فى استئصالها مازالت معنا، بل ــ وأخيرا ــ تزداد قوة وترسخا. فى قلبها يرزح الانحياز إلى الذكورة على حساب كرامة الأنوثة متمثلا فى أجلى صوره فى احتقارها وفى ارتكاب جرائم الشرف باسم حمايتها، وترزح أشكال من التعصب للقبيلة والعشيرة وأشكال من التفاخر بالنسب والأصل. وهى وراء احتقار العمل اليدوى والمدح الكاذب والهجاء الفاحش وعدم الانضباط فى أشكال من الأنظمة.

وعلى الرغم من القول الشهير المنسوب إلى رسول الإسلام بأن «ليس منّا من دعا إلى عصبية»، فإن العصبية القبلية تهيمن على الحياة السياسية كالانتخاب على أسس قبلية بحتة وعلى الحياة الوظيفية كالتعيينات من خلال الواسطة.

ثالثا : تأثيرات الثقافة النيوليبرالية العولمية، فهذه تجتاح الوطن العربى مثلما تجتاح العالم. وما يهمنا هنا هو المحاولة الخطرة لقولبة الإنسان فى شكل كائن استهلاكى نهم لكل أشكال الإنتاجات المادية من جهة والمعنوية الغرائزية السطحية العابرة من جهة أخرى. وينتهى الإنسان ليصل إلى ذاتية إنانية مريضة منفصلة عن مجتمعها ورافضة لكل التزام تجاه الآخرين. إنها محاولة لإعلاء الحسى على حساب العقلى والأخلاقى وإلى إعلاء الذاتى على حساب الجمعى والتعاضد الإنسانى.

***

نحن إذن أمام عوامل ثلاثة تبنى عقلية جمعية مليئة بالعلل والنواقص التى تفرض نفسها على الفرد العربى، فيتبنى مقولاتها وأعرافها وسلوكياتها، ليصبح مواطنا عاجزا عن المساهمة فى إخراج أمته من تخلفها التاريخى ومن مآسيها التى تواجهها حاليا بفعل الاستباحة الخارجية من جهة وبفعل القوى البربرية والانتهازية أو الزبونية أو الطائفية أو المتزمتة الداخلية من جهة أخرى.

ليس الهدف هو التهجم على الفقه المتزن المستجيب لحاجات العصر وتساؤلاته بانفتاح وعقلانية ولا على حاملى ودعاة مثل هذا الفقه، ولا الرفض للحميمية والتعاضدية فى الانتماء القبلى، ولا المناداة بالنأى عن القيم والمنجزات الإنسانية المبهرة فى الحداثة والعصرنة. المطلوب هو الرفض التام لتشويه تلك العوامل وجعلها، كما هو حاصل، عوامل تشويه وإضعاف لعقلية المجتمع وساكنيه، وبالتالى تشويه الإنسان العربى.
هناك حاجة تاريخية ملحة لجهود فردية ومؤسساتية هائلة لمنع ودحر ما يحدث فى طول وعرض بلاد العرب من خلال دحر كل ما يرفد العقلية الجمعية العربية بشتى أشكال الأمراض العقلية والنفسية والروحية.

مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved