«من المحافظة إلى التحرر»... حينما عملت لبعض الوقت!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 4 يونيو 2016 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

طوال حياتى التى أتمم فيها ستة وثلاثون عاما هذا الشهر، كنت محظوظا بالعمل الثابت. فمنذ تخرجى فى جامعة القاهرة عام ٢٠٠١ وأنا أعمل بها وأتدرج فى وظائفها الأكاديمية من معيد لمدرس مساعد ثم لمدرس. خلال سنوات الجامعة لم أضطر لأعمل بعض الوقت، فأسرتى كانت تتحمل كل التكاليف وتترك لى التفرغ التام للمذاكرة والبحث. ولأننى لم أبحث عن عمل كونى اشتغلت فى الجامعة بعد التخرج مباشرة، ثم حصلت على مِنح مدفوعة بالكامل لدراسة اللغة ثم الماجستير والدكتوراه بالخارج، فقد كنت دائما إنسانا محافظا! فالمحافظة بقدر ارتباطها بطييعة الشخصية وطريقة التربية ومعطيات التفاعل فى المجتمع الذى ينشأ فيه الفرد، فإنها ترتبط أيضا بالخبرات الحياتية التى قد تدفع الشخص إلى مزيد من المحافظة أو إلى مزيد من الانفتاح بحسب قدر كل شخص وظروفه الحياتية وخبراته فى هذا العالم.

***
كنت وحتى تخرجت فى الجامعة ابنا نموذجيا للطبقى الوسطى المصرية، محافظا، يرى العالم من منظور ضيق وكأن هذا العالم قد صنع خصيصا له ومن أجله، لديه منظومة قيمية جامدة وجاهزة لوصم الأشخاص الذين يتعامل معهم بحسب درجة قربهم أو ابتعادهم عن هذه المنظومة ملبسا ومشربا وأكلا وكلاما وتصرفا وهكذا. لكن كان القدر رحيما بى حيث أعطانى الفرصة سريعا للخروج من تلك المنظومة العقيمة إلى منظومة أرحب وأوسع. عوامل كثيرة ساهمت فى تحول شخصيتى تدريجيا من المحافظة إلى التحرر، أتوقف اليوم أمام بعض الأعمال غير التقلدية التى قمت بها فى حياتى بعيدا عن مجال البحث والأكاديمية، وساهمت كثيرا فى تغيير نمط حياتى وشخصيتى.


< مراسلا صحفيا: كانت أمنيتى القديمة أن أكون صحفيا! وحينما حصلت على نتيجة مكتب التنسيق التى تفيد التحاقى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فإننى ذهبت إلى كلية إعلام لتحويل أوراقى ثم تراجعت لاحقا! كانت المرة الأولى التى أعمل بها صحفيا حينما كنت فى الإعدادية، وقتها عملت مراسلا صحفيا لمجلة سمير فى تجربة جريئة لدار الهلال قادتها المرحومة الكاتبة نتيلة راشد «ماما لبنى» وأشرف عليها الأستاذ الفاضل محسن الزيات. كنا نحمل بطاقة صحفية من دار الهلال ونقوم ونحن فى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر بحوارات صحفية مع أدباء وفنانين وكُتاب ولاعبى كرة..إلخ. كانت تجربة ثرية أثرت كثيرا على رؤيتى للحياة وعلى انفتاحى التدريجى عليها. أدت هذه التجربة إلى تخرج عشرات الموهوبين فى كل المجالات لاحقا أذكر منهم الصديقين العزيزين الأديبين والكاتبين محمد فتحى ومحمد علاء الدين، والصديق الكاتب والفنان عمر مصطفى. عملت مراسلا صحفيا مرة أخرى لأحد المواقع الرياضية الإلكترونية فى مصر من اليابان. فى طوكيو وناجويا أقمت حوارات صحفية وتغظية لكأس العالم للأندية الذى نظمته اليابان فى العامين 2006 و2007 على التوالى. قابلت أشهر لاعبى العالم واقتربت من تجمعاتهم ومعسكراتهم وأدركت فى هذه التجربة أن هناك مساحة شاسعة تفصل بين«صورة» المشاهير التى يتم تسويقها باحتراف، وبين«مضمون» هؤلاء كما يبدون فى حياتهم الشخصية بلا تكلف وبعيدا عن فلاشات الكاميرات!


< مدرسا للابتدائية: خلال الفترة من ٢٠٠٤و ٢٠٠٦ عملت مدرسا للثقافات لبعض الوقت فى مدارس منطقة طوكيو الحضرية (طوكيو وسايتاما وتشيبا) من خلال برنامج اليونسكو فى طوكيو والذى كان يبحث عن شباب فى العشرينيات لتدريس مادة الثقافة لطلاب المرحلتين الابتدائية والإعدادية لتعريفهم بحضارات وأديان وثقافات مختلفة. وهكذا فى الفترة بين ٢٠٠٤ و٢٠٠٦ كنت أقوم يوم الجمعة من كل أسبوع بتدريس ساعتين للثقافة لعشرات المدارس فى اليابان، اقتربت فيهم بقوة من نظام التعليم اليابانى بمميزاته وعيوبه وتعرفت عن قرب بالثقافة اليابانية وقد ساعدتنى هذه التجربة الثرية فيما بعد كى أخصص رسالتى الماجستير والدكتوراه عن سياسات التعليم فى دولة اليابان. 


< مترجما فى محطة القطار: كانت تلك من أكثر التجارب إثارة فى حياتى، فبمناسبة استضافة جزيرة هوكايدو اليابانية قمة الثمانى فى العام ٢٠٠٨، وتوقعا لزيادة عدد السياح الزائرين للجزيرة قررت محطة قطارات هوكايدو تعيين عدد من المترجمين فى محطات القطارات لمساعدة موظفى السكك الحديد فى التعامل بالإنجليزية مع السياح. بعد مقابلة قصيرة للتأكد من إجادتى اليابانية والإنجليزية، عينتنى سكك حديد هوكايدو مترجما فى محطة القطارات المركزية بالمدينة (محطة سابورو)، أذهب ثلاثة أيام فى الأسبوع ولمدة شهر إلى غرفة التحكم المركزية حيث أبقى متصلا مع ٢٤ محطة فرعية فى الجزيرة بالإضافة إلى المحطة المركزية، لمعاونة الموظفين فى التعامل مع أى مشكلة تخص السائحين عن طريق الترجمة الفورية بالصوت والصورة. كانت تجربة ثرية للغاية وأنا أتواصل مع المحطات الفرعية وأقوم بالترجمة وإعطاء المعلومات المحددة لكيفية التصرف لكل من السائح وموظف المحطة الفرعية، تجربة أخبرتنى عن معانى التعددية وعن العدد اللانهائى من الحيوات الفردية من خلال مشاهدة السائحين وتنوع لغاتهم وملابسهم ومظهرهم واهتماماتهم. قبل أسبوع من انعقاد المؤتمر كانت هناك أزمة مفاجئة، فمحطة قطارات «توياكو» وهى المحطة الرئيسية التى تستضيف المؤتمر أصبح الضغط عليها غير متوقع بحيث لم يعد من المجدى التعامل معها عن بعد من خلال التليفون فى المحطة المركزية التى كنت أعمل بها، فقررت المحطة الرئيسية إرسالى مع يابانى آخر لمحطة توياكو للمساعدة. عملت هناك أسبوعا كاملا بشكلا مستمرا، فالمحطة لم تكن مشكلتها فقط الترجمة والتعامل مع هذا العدد الكبير من السائحين، ولكن المشكلة أن السائحين أصبحوا يتعاملون مع المحطة باعتبارها مكتبا للسياحة يسألون عن أماكن التنزه والاستجمام والمطاعم..إلخ، وهكذا كان على سريعا أن أتعلم كل شىء عن معالم المدنية والعروض السياحية المتوافرة، ثم بعد ذلك وبسبب أن المحطة بدائية وليس بها جهاز لختم التذاكر المشتراة، فأصبحت أقوم بالوقوف فى باب الدخول إلى الرصيف (بين شباك التذاكر ورصيف القطار) لأختم بشكل يدوى كل تذكرة للسائحين. كانت تلك التجربة ممتعة لأنها علمتنى أيضا كيف يمكن تطوير نظام للتعامل مع الأعداد الكبرى، بالإضافة إلى روح وتقاليد العمل الجماعى.
< مستقبِلا فى المطار: كان حلمى القديم أن أعمل فى المطارات! عالم المطارات يستهوينى كثيرا بتنوعه واقترابه من الدنيا بأسرها، ففكرة وجود بوابات تقلع منها طائرات إلى وجهات عالمية متنوعة فكرة مثيرة للتأمل، جاءتنى الفرصة أخيرا مع انعقاد جلسات مؤتمر قمة الثمانى، فبعد أن انتهيت من العمل فى محطة القطار انطلقت فورا إلى مطار (شيتوس) لاستقبال الوفود المشاركة من صحفيين ودبلوماسيين وزائرين مصاحبين للوفود الرسمية وأحيانا غير الرسمية، ولأن هناك أكثر من ٢٢ وفدا قاموا بالمشاركة فى هذا المؤتمر فقد كان اليوم مليئا بالعمل بحيث أنتظر بمصاحبة عدد من اليابانيين لوصول الوفد والمصاحبين له ثم نتعامل مع كل متطلباتهم بالمطار، ولأنى كنت أجيد العربية والإنجليزية بالإضافة لليابانية، فقد كنت الأكثر عملا من فريق الاستقبال، ولكنى للأسف اضطررت للتوقف عن العمل بعد أربعة أيام فقط حتى لا أقع فى مخالفة القانون اليابانى الذى يسمح لى كطالب دراسات عليا بالعمل عدد ساعات محدود فى الشهر، وانتهت تلك التجربة المثيرة عند هذا الحد ولكن بالكثير الخبرات!


***
فكرة العمل لبعض الوقت وخصوصا فى مجال بعيدا عن التخصص الأصلى هامة للغاية، لأنها أولا تكسر «الأنا» وتدفع الإنسان للخروج من صومعته إلى عالم أرحب وأوسع، كما أنها تدفع الإنسان للتعلم والتحرر من القيود والموروثات الفكرية العقيمة لأنها تعلمه كيف يواجه تحديات الحياة، وتعلمه التأمل والفلسفة فى أحوال البشر، وتجبره على تحدى مجموعة المسلمات أو«اليقينيات» الموروثة، فواحدة من أهم أسباب تخلف المجتمعات هم هؤلاء «الموقنون» الذين ورثوا قناعاتهم ويريدون أن يروا العالم ويسيروه من خلالها! العمل والتفكير والتدبر والفلسفة هى من شروط التقدم والحداثة والتغير والثورة الفكرية والمجتمعية ومن ثم السياسية، وبدون هذه القيم تتجمد المجتمعات وتموت فى مكانها. 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved