الحرب والشهرة والجغرافيا

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 4 يونيو 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

عندما حدثنى صديق يوما عن مدينة القامشلى حيث ولد، بالقرب من سفح جبل طرطوس على الحدود السورية ــ التركية، ضحكت وخجلت من ضعف معلوماتى الجغرافية وقتها التى لم تكن تتناسب بالطبع مع حجم اعتزاز ابن المدينة التى غاب عنها. كان ذلك قبل سنوات وسنوات، أى لم تكن الثورة والحرب قد مرتا من هناك ودفعتا بالمدينة، ذات الغالبية الكردية والتى يقطنها أيضا خليط من السريان ــ الآشوريين والعرب والأرمن، إلى مانشتات الصحف وبرامج الفضائيات. والقامشلى ليست حالة فريدة بهذا الصدد، فالعديد من المدن والقرى تكتسب شهرة مفاجئة وعالمية أحيانا لارتباطها بأحداث جارية، وهى أحداث على الأغلب ليست بسعيدة. ومع استمرار تدافع الأنباء تظل أسماء هذه القرى والمدن عالقة بالأذهان، نعرف عنها معلومات لم تكن تهمنا فى السابق، بل نألف طريقة نطقها بالأحرف الأجنبية كما فى نشرات الأخبار الإنجليزية، فنعطش جيم «الفالوجة» أو نمط أحرف «البصرة» لتصبح Bassorah، مثلما يلفظها المذيعون الأجانب. نذكر مدينة جنين الفلسطينية بالاجتياح الإسرائيلى وتدميرها سنة 2002 وكيف دكتها طائرات الكوبرا حينها وساوت بيوتها بالأرض، مخلفة ضحايا لا حصر لهم. صور الدمار والحرق تجعلنا ندقق موضع تلك البقاع المنكوبة على الخريطة: قرية الكرم فى صعيد مصر تتبع مركز أبو قرقاص بالمنيا، الرمادى عاصمة محافظة الأنبار تقع وسط العراق، باتت خرابة بعد خروج داعش منها وقد تكون إحدى أكثر المدن فى العالم تلوثا بالألغام، الفلوجة ــ زميلتها فى محافظة الأنبار شمال غرب بغداد ــ ينحدر أغلب سكانها من العشائر ويطلق عليها أيضا مدينة المساجد لأنها تضم 550 مسجدا، والفلوجة فى اللغة هى الأرض الصالحة للزراعة إذ تتفلج تربتها حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض... وهكذا تمر بنا مدن وقرى وعلى رءوسنا طير، تخرج من غياهب النسيان على الأقل لفترة ويذيع صيتها بسبب الإعلام والسياسة. 


***
تتبدل أيضا طبيعة وتركيبة هذه الأماكن، فهناك ما يسمى بجغرافيا مدن الحروب، خاصة عندما تستمر الحياة فيها جنبا إلى جنب مع الاشتباكات. وعلى اختلاف هذه القرى والمدن وطبيعة الصراع إلا أن هناك أشياء مشتركة بينها تبدأ بجغرافيا الخوف التى تغير من وجه المدينة: كل فصيل يتخذ له موقعا للتمترس، منطقة أو حيا يصبح معقله، ولو لفترة، يسيطر على مداخله ومخارجه، خوفا من اقتراب الآخر الذى صار عدوا بين عشية وضحاها. وبالتالى يتبدل المشهد، تقطع الطرق حتى لا يربط الجسر بين نقطتين. تقف الدبابات والمدرعات ومن يحميها على الأبواب للتفتيش. ينغلق كل فريق على نفسه وينعكس ذلك على جغرافيا المدينة، يترجم إلى أسوار وحواجز تمنع المرور وتذكر الأهالى فى كل لحظة أن ثمة خطرا يهددهم وأنه يجب النزوح من أحيائهم التقليدية للعيش فى أماكن أخرى تجمعهم فقط بمن يشبهونهم دينيا أو عرقيا، وهو ما يطلق عليه «جغرافيا البعاد أو التجاوز». ننفصل عن الآخر وتتعمق الانقسامات الطائفية والسياسية والاجتماعية والثقافية. تكرس واقعا على الأرض، يتأكد كل يوم بحكم الأحداث، ويأصل للاختلافات بين السكان، أى تترسخ «جغرافيا الفرقاء» الذين قد لا يجمعهم نفس الحى مرة أخرى، حتى بعد أن يزول الصراع ظاهريا. 


***
وعندما يصير كل فريق معزولا فى مساحة جغرافية محددة يسهل العنف وتزداد وتيرته، بهدف إبادة الخصم وأعوانه وقد تمركزوا فى مكان واحد. توضع القنابل أو العربات المفخخة بالقرب من الأسواق أو أماكن العبادات الخاصة بفريق بعينه لإحداث أكبر قدر من الخسائر بين صفوفه، ما يدفعه لمزيد من التعزيزات العسكرية، وربما تغيير المواقع مرحليا، ما يغير مجددا فى جغرافيا المدينة التى دخلت فى أتون الحرب لكى تتبدل معالمها ويمتد ذلك إلى تاريخها. لا المدن تشبه المدن التى كانت، ولا الحروب تشبه تلك التى كنا نراها فى السابق على اللوحات الزيتية لكبار الرسامين. ولا نتذكر بمرور الزمن من هذه المدن التى ذاع صيتها فى وقت ما سوى الصور التى تناقلتها وسائل الإعلام ودخلت الأرشيف: أطلال وبيوت محروقة وبنايات مهدمة، يقف بينها شخص أو اثنان يبحثان عن ذويهم أو بقايا 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved