انتبهوا تصحوا وترتقوا وتسعدوا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 4 يونيو 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

قضينا شهر التصييف كعادتنا كل سنة فى شاطئ سيدى بشر وحل موعد رحيل جزء من العائلة، الجزء الذى يخصنى. جهزنا الحقائب وحملتها إلى الرصيف لأنقلها واحدة بعد الأخرى إلى الرصيف المقابل حيث باتت سيارتى. هدأت من توتر الابن المحتج على العودة المبكرة إلى القاهرة وأسلمت قياده إلى أمه التى كانت تحمل ابنتها ذات الربيعين، وهى الأخرى لا تريد أن تبقى محمولة وأخوها على قدميه لا يهدأ. حملت أول حقيبة وعبرت الكورنيش لأضعها إلى جانب السيارة. استدرت لأعود من أجل الحقيبة الثانية وفى لحظة حدثت أمور كثيرة. لمست قدمى أسفلت الطريق الساخن جدا وأفلتت الابنة من حضن أمها منسلخة عنها لتنزل إلى الرصيف ومنه إلى الطريق مندفعة بكل ما أوتيت من سرعة الطفولة وفجائيتها نحو قلب الكورنيش، وعلى بعد أمتار منها تندفع نحوها سيارة الصرف الصحى الشهيرة بسرعتها وضخامتها. فجأة ينتبه السائق إلى الطريق فيرى طفلة تتقافز على الأسفلت الساخن مستسلمة أو غير مدركة هول كارثة على وشك أن تقع. اختلط صراخنا، صراخى وصراخ أمها وصراخ جدها من شرفة الشاليه وصراخ المارة وقائدى سيارات أخرى، مع الصرير الزاعق لفرامل سيارة الصرف الصحى وهى تحاول تفادى الطفلة والسيارات القادمة من الاتجاه المضاد، من اتجاه شواطئ المندرة والعصافرة والمنتزه. وبالفعل تفادى السائق كل شىء بما استحق وصف المعجزة. كانت لحظة جرى فيها ما جرى وانتهت بتبادل التهانى وشكر الخالق وقائد سيارة الصرف الصحى الذى احتضن الطفلة وجلس على الرصيف يبكى. من وسط الزحام وبين خليط الصراخ والصرير وبصوت خافت اقترب والدى ودموعه تنسال على خديه ليهمس فى أذنى معاتبا أو محتجا «إذا كنت مش عارف تنتبه على أولادك كنت بتجيبهم ليه.؟».

***
عشت ألقن الشباب عموما والمرءوسين بخاصة الذين ساقتهم أقدارهم وقدرى للعمل معى، عشت ألقنهم معنى الانتباه. شجعنى على أداء هذه المهمة بكل إخلاص ممكن أننى كنت من مدمنى الشرود، أو لعله الانغماس فى عيش الخيال واجترار حكاياته. نبهت على أطفالى ألا يسلكوا مسالك السعى وراء القصص النادرة والحواديت المثيرة وبخاصة أثناء وجودهم فى فصول التعليم والاجتماعات الجادة وخلال الأشغال المهمة. وأظن، وفى الواقع أتمنى أن يكون أحدهم قد تخلى عن ممارسة هوايتى الشرود لساعات وساعات والكتابة عن رحلات فى عالم الخيال العلمى، خاصة وقد اختار أن يمتهن استخدامات المبضع ويبدع فيها.

***
ساقنى الحظ إلى العمل مع شخص اجتمعت فيه خاصيتان أو قدرتان هما القدرة على التركيز الشديد والانتباه المحكم والقدرة على تشغيل الخيال فى الوقت المناسب وبالدرجة المناسبة. اتفقنا على أهمية توفير الفرص لتشغيل هاتين القدرتين فى فترات زمنية متقاربة بهدف صقلهما. دأبنا كلانا على إخضاع مذكرات ووثائق رسمية للفحص الدقيق، كل منا يفحص المذكرة أو الوثيقة على حدة ثم نقارن بين درجة انتباه كل منا لأدق التفاصيل. هذا التدريب المتكرر أسبوعيا كان له الفضل فى المحافظة على لياقتنا المهنية فى مرحلة الشباب وبخاصة عندما أضفنا إلى المذكرات والوثائق مقابلات أجراها صحفيون. كنا نبحث بين السطور عما يكون قد سقط من كلام الضيف وما أفلت من انتباه الصحفى. لا أنسى فضل هذه المرحلة على تكوينى، والأكثر هو فضلها على تطوير القدرتين معا، القدرة على الانتباه إلى التفاصيل وفى الوقت نفسه القدرة على القفز فوق التفاصيل إلى ما هو عام أو مستقبلى أو افتراضى إذا احتاج التحليل. المهم هو أننا تمكنا معا وساعدتنى ظروف تنقلى المتكرر بين مهام ومهن شتى فنقلنا التجربة والتدريب أينما كنا ومتى اجتمعنا.

***
لن أنساه ما حييت. كان أستاذا وصهرا. جعلنى أقرأ وأنا فى الخامسة عشرة مجموعة قصص بطلها الشخصية الوهمية التى ابتدعها آرثر كونان دويل واختار لها اسم شرلوك هولمز. كنت أقرأ القصة، ولأنه كان يحفظها تقريبا عن ظهر قلب، يطلب منى قبل الوصول إلى خاتمتها أن أجتهد فى حل لغزها قبل أن يكشف هولمز بنفسه عن الحل وكيف توصل إليه. كان تدريبا مهما ومجديا للغاية. أفادنى للغاية حين مارست لفترة قصيرة متعة الكتابة الصحفية. كنت محظوظا بصحبة خبير مخضرم ينتظر عودتى من زيارة عمل أو عشاء أو أمسية حوار وفى يده قائمة أسئلة، منها على سبيل المثال والتدريب أيضا الاستفسار عن عدد اللوحات المعلقة على حائط الغرفة التى استقبلنا فيها المضيف أو المضيفة وأسماء الفنانين الذين وقعوها ولأى عصر من عصور الرسم ينتمون. منها أيضا ماركات أحذية الضيوف ومقاساتها إن أمكن. الحذاء ومقاسه بالتقريب. أثق كل الثقة أنه بدون هذا التدريب فى سن المراهقة على قصص شرلوك هولمز وفى مرحلة أخرى وباهتمام أقل على اجتهادات هيركيول بوارو بطل الروائية الشهيرة أجاثا كريستى ما كنت حافظت على نعمة الانتباه رغم العدوان المتكرر والمعتاد عليها من جانب نعمة الشرود والانغماس فى الخيال. استطعت، بمساعدة من يكبرنى أعواما ويسبقنى تجارب وخبرة، أن أجعل كلا النعمتين، الانتباه والانغماس فى الخيال، متساويتين فى تحقيق الاشباع المرغوب.

***
تعلمت، مع الحذر، أن ما نراه أو نلمسه، أى ما «ننتبه» إلى وجوده هو ما يجب أن يهمنا فى عملنا وربما فى حياتنا الخاصة. هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة. أقول مع الحذر خشية أن تجور هذه الحكمة على متعة الغوص فى الخيال والرغبة العارمة أحيانا والمشروعة فى رأيى للتخلص من قيود الانتباه. أعرف أن «الانتباه» يحسبون له حسابا واحتراما فى فكر وتجارب التنمية فهو رصيد وثروة طبيعية أهم من الذهب والنفط والغاز ومياه الأنهار، أعرف كذلك أن وجود الانتباه هو الأقوى بين كل علامات الاهتمام فى علاقات الحب والصداقة والزمالة وبين الزوجين وأن غيابه هو الأفضح بين كل مؤشرات الانحسار والتباعد، فانتبهوا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved