اللاءات والباءات في الساحة الدبلوماسية

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الثلاثاء 4 يونيو 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

عندما سئل ريكس تيلرسون وزير خارجية ترامب السابق عن سبب استقالته قال إنه قادم من شركة إكسون موبيل حيث نظام العمل المحكم والمنظم الخاضع لبروتوكولات وإيجازات ودراسات، بينما نظام العمل مع ترامب مختلف تماما فهو قليل الخبرة والمعلومات ولا يقرأ ولا يحب أن يستمع إلى وجهات نظر غير التى يؤمن بها وكثيرا ما كنت أقول له: «أنه لا يمكنك أن تفعل ذلك» أو «أن ذلك مخالف للقانون أو للمعاهدات الدولية»، فكان يضيق صدره ويقول: «أنا أريدك أن تقول لى كيف أفعل وليس لا يمكنك أن تفعل»... وأضاف تيلرسون أنه وجد أن منظومة القيم لديه ولدى ترامب مختلفة تماما..

***
وبمناسبة أن ترامب لا يقرأ.. فإن الذاكرة تعود بى إلى بدايات عملنا الدبلوماسى فى الأمم المتحدة فى ستينات القرن الماضى عندما كان الزملاء القدامى ينصحوننا ألا ننزل من البيت قبل قراءة النيويورك تايمز.. فهى والواشنطن بوست قلاع الصحافة المقروءة أمريكيا وعالميا إلا أن ترامب ناصبهما العداء وسائر وسائل الإعلام عدا قناة فوكس اليمينية التى تؤيده وفضلا عن ذلك فهو لا يحب أن يسمع صوتا معارضا، وقد تخلص من أكبر عدد من المساعدين خلال العامين الأُوَل من ولايته حتى استقر على المجموعة الحالية المتجانسة فعلا ولكنها شديدة التطرف إلى الدرجة التى أصبح ترامب فيها هو أكثرهم اعتدالا... وقد شاهدنا ذلك بوضوح فى إعلاناته الأخيرة المتكررة بأنه لا يريد الحرب ولا يريد تغيير النظام فى إيران ويسعى إلى تغيير السلوك فقط.

كما أعلن أنه لا يرى حاجة لإرسال قوات إضافية لمواجهة إيران، وذلك بعد ساعات من تصريح وزير دفاعه بالنيابة بأنهم فى البنتاجون يعدون لإرسال عشرة آلاف مقاتل لتعزيز القوات الأمريكية فى المنطقة.. وهذا الموقف يتسق مع المبادئ والوعود الانتخابية التى أطلقها فى حملته الانتخابية والتى وعد فيها بتقليص انتشار القوات الأمريكية حول العالم وانتقد فيها الحرب على العراق وسائر التدخلات التى تحمل الخزانة الأمريكية نفقات لا جدوى منها.. وهذا هو عكس ما يدعو إليه أقطاب إدارته الذين لا يخفون رغبتهم فى الحرب وفى تغيير النظام.

فبولتون مثلا ــ مستشار الأمن القومى ــ له مقال شهير عنوانه: إذا أردتم منع إيران من امتلاك القنبلة الذرية فعليكم بضرب إيران If You Want to Prevent the Bomb..Bomb Iran .

كما أن بولتون هذا كاد يزج بترامب فى مغامرة عسكرية خطيرة فى فنزويلا... وقد أصبح معروفا الآن أن ترامب غضب من عدم إعطاءه صورة حقيقية عن الوضع فى فنزويلا وعن مدى قوة مادورو رئيس الجمهورية وشعبيته واضطر للتدخل لكبح جماح بولتون وأعلن ذلك عندما قال إنه ــ أى بولتون ــ رجل جيد ولكنه شديد الحماس وأنه ــ أى ترامب ــ كثيرا ما يهدئه.

***
جواد ظريف وزير خارجية إيران وأهم عناصر قوتها الناعمة أراد أن ينفذ من خلال هذه التناقضات فقرر أن يخاطب ترامب مباشرة من خلال الشاشة الوحيدة التى يحرص على مشاهدتها وهى شاشة فوكس نيوز.. وأنا أعرف ظريف شخصيا حيث عملنا معا لإنشاء مجموعة الدول الثمانية النامية D8 ثم تزاملنا فى اجتماعاتها كممثلين لدولنا وأعرف قدراته الدبلوماسية الفذة..

لقد أراد أن يبلغ ترامب ــ من خلال فوكس نيوز ــ رسالة فحواها أن إيران أيضا لا تريد الحرب وأن الذين يدفعون ترامب للحرب أسماهم من المجموعة باء Group B وهم بنيامين نتنياهو وبولتون وبن سلمان وبن زايد..
***
وجواد ظريف هو الذى أدار بنجاح معركة الملف النووى مع الدول الكبرى حتى تمكن من عقد الاتفاق الشهير الذى تم بموجبه رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران مع السماح لها بتخصيب اليورانيوم فى حدود منخفضة.

ويكمن النجاح هنا ليس فقط فى إقناع الدول الكبرى بالصفقة ولكن الأهم والأكثر صعوبة هو النجاح فى مقاومة الضغوط المعاكسة الهائلة للنفوذ اليهودى الصهيونى خاصة فى أمريكا..

ونذكر جيدا كيف ذهب نتنياهو إلى الولايات المتحدة لمخاطبة الكونجرس الأمريكى بمجلسيه لمحاولة إثناء الولايات المتحدة عن توقيع الاتفاق وذلك دون دعوة من الرئيس الأمريكى وهو أمر غير مسبوق فى تاريخ العلاقات الدولية.. ولم ترضخ أمريكا للضغوط وكانت هذه من المرات النادرة جدا التى فشلت فيها إسرائيل فى تطويع السياسة الأمريكية لخدمة مصالحها.

ولا يوجد لذلك إلا سابقة وحيدة عندما وقف الرئيس الأمريكى الأسبق والأشهر دوايت أيزنهاور فى وجه العدوان الثلاثى على مصر وأجبر الدول الثلاث المعتدية.. بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على وقف إطلاق النار والانسحاب..

***
لم يتوقف نتنياهو عن الشكوى من خطورة الاتفاق وخطورة الإفراج عن أموال إيران المجمدة لدى المصارف الأمريكية (12 مليار دولار) التى ستستخدمها إيران لتعزيز قدراتها العسكرية وقدرات حزب الله والجماعات الأخرى التابعة لها فى المنطقة.

كان نتنياهو يشكو من كل عناصر الاتفاق حتى أنه اشتكى من «الجاذبية الشخصية» لجواد ظريف فقال «I heared that Zarif is Charming the Western ministers in Vienna»

ثم جاءته الفرصة بوصول ترامب إلى قمة السلطة فى الولايات المتحدة وتشكيل إدارته من غلاة اليمنيين المتطرفين والموالين لإسرائيل من أمثال جون بولتون مستشاره للأمن القومى.. فاستجاب ترامب لكل مطالب نتنياهو ضاربا عرض الحائط بمعارضة حلفائه الأوروبيين فقام بالانسحاب من الاتفاق النووى ثم قام بفرض عقوبات اقتصادية ليس لها مثيل من حيث الشدة على إيران وعلى الشركات التى تتعامل معها.. وساعده فى ذلك موقف السعودية والإمارات الداعم بقوة لتضييق الخناق على إيران..

***
ويبدو أنه بعد اللاءات الثلاثة الشهيرة التى صدرت عن مؤتمر القمة العربى بالخرطوم عام 1967.. لا اعتراف ولا تفاوض ولا صلح، بزغ الآن حرف الباء فبالإضافة إلى باءات جواد ظريف، فقد شاهدنا وسمعنا هدير الجماهير فى الجزائر وهى تهتف رافضة الباءات الثلاثة.. لا لبن صالح رئيس الجمهورية الجديد ولا لبدوى رئيس الوزراء ولا لبلعيد رئيس المجلس الدستورى.. وقد نجح الثوار فى إسقاط الأخير ولا زال الإصرار مستمرا على إسقاط البائين الآخرين.

وقد سيطرت اللاءات الثلاثة على الساحة الدبلوماسية فى الشرق الأوسط سنين عددا ووجد فيها الطرفان ــ العرب وإسرائيل ــ متكأ مريحا.. فالحكام العرب أرادوا أن يظهروا بمظهر الصمود والتحدى، وإسرائيل وجدتها فرصة مريحة لاستمرار ابتلاع الأراضى، وبعد أن تخلى العرب عن لاءاتهم الثلاثة جاء دور إسرائيل بثلاث لاءات موجعات.. لا للقدس ولا لعودة اللاجئين ولا للدولة الفلسطينية.

وتختلف لاءات إسرائيل عن اللاءات العربية الديماجوجية الجوفاء.. فلاءات إسرائيل يعززها عمل على أرض الواقع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved