جثث على الرمال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 4 يوليه 2020 - 9:20 م بتوقيت القاهرة


عم الصمت الشاطىء. السماء صافية في مدينة سرت الليبية ولا توجد سحب، كما تفيد نشرة الأرصاد الجوية، إلا أن البحر بزرقته الفيروزية صار يلقي بالموتى ويبصق جثثا خلال السنوات الأخيرة. ربما كان البدو الرحل على حق عندما شعروا تجاهه بالرهبة، فهم يعرفون أن جميع الغزاة جاءوا من البحر، هكذا ردد معمر القذافي في حديثه المطول لمراسل صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية، مينو فينيولو، الذي حرر سيرة العقيد الذاتية في كتاب صدر في مطلع ثمانينات القرن الفائت. تكلم وقتها عن البحر الذي يملأ نوم أهل الصحراء بالكوابيس وكيف كان مصدرا دائما للأخطار، وهو الذي ولد في العام 1942 بقرية قصر أبو هادي على بعد عشرات الكيلومترات من سرت التي التحق بمدرستها الرسمية وهو في سن الحادية عشرة، إذ كان ينام في المسجد ويذهب لزيارة عائلته، كل خميس وجمعة، يومي العطلة، فقبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها كانت ضمن قبائل المنطقة التي قاومت الولاة الأتراك وأتباعهم إلى جانب البحث عن "الكلأ الهارب".
لم تعد سرت تشبه القرية البيضاء الهادئة التي وصفها، فقد اعتنى بها في سنوات حكمه وحاول أن تصبح المدينة التي يرجع تاريخها إلى حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي عنوانا لثورته، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى مكان "منبوذ" بعد تحصنه ومقتله بها في أكتوبر 2011. ومن بعدها صارت مطمعا دائما لكل من تطأ قدمه ليبيا بسبب موقعها الاستراتيجي بين الشرق والغرب الليبي، على الساحل بين طرابلس وبنغازي. هي خط أحمر بالنسبة لمصر، ومحط أنظار الأتراك والروس والفرنسيين الذين يتطلعون إلى قواعدها العسكرية ومناطق السيطرة على النفط، فهي تقع على مقربة من حقول البترول وكذلك موانئ تصديره الرئيسية في البريقة ورأس لانوف والسدرة، كما يلتقي عندها أنبوبا النهر الصناعي القادم من واحات السرير والكفرة والآخر القادم من جبل الحساونة ليشكلا أطول شبكة لنقل المياه في العالم من صنع الإنسان. وهي في الوقت ذاته تعتبر بوابة للمناطق الداخلية بفزان، ويمكن اتخاذها قاعدة للانطلاق إلى الواحات التي تقع إلى الشرق والجنوب.
***
لا شيء في الصراعات القائمة يذكرنا بشاعرية اسمها المشتق من اليونانية القديمة والذي يشير إلى منطقة تتراكم عندها الرمال والأحجار، في حين لا شيء أهم مما وقع في الماضي. وصفها البكري، الجغرافي والأديب الأندلسي الموسوعي، بأنها مدينة على سيف البحر، كما لو كان يعلم أن البحر قد يتحول في لحظة إلى وحش أزرق عملاق ينهض على حافة العالم ليبتلع البلد وثرواتها، كما في الأساطير. الرمال الناعمة التي تغوص فيها الأقدام شهدت هزيمة الأتراك على يد الإيطاليين في العام 1912، ثم طردت الحركة السنوسية هؤلاء بعد ثلاث سنوات، قبل أن يعاودوا الكرة ويتمكنوا من السيطرة عليها مجددا سنة 1924، فمدينة سرت تقع على بعد حوالي 300 كم من شواطئ بلادهم.
العثمانيون كانوا قد شيدوا حصنا منيعا في هذه المنطقة بمرسى الزعفران عام 1842، عرف فيما بعد بقصر الزعفران، وهو المكان الذي تردد اسمه أحيانا في المعارك الأخيرة، بعدها بأكثر من أربعين عاما أنشأوا مدينة سرت الحالية، خلال ولاية أحمد باشا راسم، فهناك أماكن هي بحكم العادة ضحية الجغرافيا وتعاني أبد الدهر من "نقمة" الموقع المتميز. هذا هو الفخ الذي لم ينجُ منه عابر.
***
لعبة الأقدار جعلت مثلا من سرت محطة مهمة قديما على طريق القوافل بين برقة وطرابلس وبين إفريقيا، مما مهد ربما للدور الذي لعبته خلال سنوات حكم القذافي فيما يتعلق بمصير ومشكلات القارة السوداء، فقد شهدت مفاوضات السلام حول دارفور وقبلها توقيع اتفاق سلام البحيرات العظمى وإعلان الاتحاد الإفريقي في 9 سبتمبر 1999 بقاعة مركز "واجادوجو" للمؤتمرات، ورُشحت وقتها لاستضافة بعض مقار الاتحاد الوليد. تراصت محلات البضاعة المستوردة في شارع "دبي"، وكذلك الفيلات الفاخرة التي زينت حي "الدولار" بسرت، وذلك قبل سنوات من تناحر الميليشيات الإسلامية المختلفة ومحاولة أطراف متعاقبة السيطرة عليهما، منذ الثورة الليبية الأخيرة وحتى الآن.
تبدلت الصورة تماما وغلبت عليها الأطلال وعمليات الكر والفر. مات الكثيرون وظل المشهد المتكرر هو منظر الرجال وهم يدفنون أحدهم في مقابر مجهولة، هذا بخلاف من رأيناهم في شرائط مسجلة وهم يُعدمون على الشاطئ بأيدي الدواعش وغيرهم. مدينة عربية أخرى يبتلع بحرها الضحايا. كل شيء أمامي يغوص في الماء، وأنا أتابع فيلم "صمت الأموات" وقصصا أخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved