الحنين للخروج من المرحلة الانتقالية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 4 يوليه 2021 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

كاد الشعب المصرى يغفل عن أنه يعيش فى ظل أوضاع انتقالية لطول معيشته فى ظلها، فقد أصبح الانتقالى بالنسبة له هو الأمر الطبيعى. وتلك الملاحظة هى فى حد ذاتها مأساة لأنك لا يمكن أن تخرج من وضع غير طبيعى إذا كنت لا تشعر بأنه خارج عن المألوف. ومع ذلك هذا هو حالنا منذ عقود طويلة. الخطاب الرسمى كان يؤكد أحيانا وعمدا على أن البلاد تمر بمرحلة استثنائية تقتضى تنحية حكم القانون جانبا، وأنه عندما تنتهى هذه المرحلة سوف تنتقل مصر إلى حكم القانون، وتتسم بالاستقرار الذى يستند إلى قبول شعبى عام ويحظى بالشرعية. طبعا كان هذا هو الحال عندما تحرك الضباط الأحرار فى يوليو ١٩٥٢ وأطاحوا بالنظام الذى أسسه دستور ١٩٢٣، وكانت أبرز علامات المرحلة الانتقالية هى إسقاط ذلك الدستور وإحلاله بإعلان دستورى فى ١٦ يناير ١٩٥٣، وممارسة حكم البلاد من خلال مجلس قيادة الثورة وهو مجلس غير منتخب تألف من قيادات جمعية الضباط الأحرار، وكان من المفترض أن هذه المرحلة انتهت بصياغة دستور جديد هو دستور جمهورية مصر فى ١٦ يناير ١٩٥٦ وانتخاب جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية فى ١٨ يونيو ١٩٥٦، والعجيب أن هذا الدستور الذى جعل من رئيس الجمهورية مركز النظام السياسى فى البلاد بما أعطاه له من سلطات واسعة وحلت محله وثائق دستورية عديدة، إلا أن هذه السمات الرئيسية لنظام الحكم من سيطرة رئيس الدولة على كل مؤسساتها قد بقيت الأعمدة الرئيسية لبناء السلطة السياسية فى مصر حتى الوقت الحاضر، دون أن يكون لها قبول عام بين الشعب المصرى، كما أظهرت ذلك شعارات ثورة يناير ٢٠١١، والتى كان أبرزها «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو شعار لقى تجاوبا واسعا، وحاولت بعض الوثائق الدستورية التى صدرت بعد ذلك التاريخ وضع القواعد لنظام سياسى يتسم بالقبول العام ومن ثم الاستقرار، ولكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع، ولذلك ظلت مصر تعيش فى ظل أوضاع سياسية انتقالية. صحيح أن دستور ١٩٧١ الذى سمى بالدستور الدائم استهدف إقامة مثل هذا النظام، ولكن كان أول من خرج عليه هو الرئيس السادات بتعديله المادة الخاصة بقصر تولى رئاسة الجمهورية على فترتين، وتفسيره الخاص للسلطات الاستثنائية التى منحها الدستور لرئيس الدولة فى حالة قيام أخطار تهدد أمن الوطن، وهو ما استند إليه ليبرر إجراءات القبض على أكثر من ألف وخمسمائة من القيادات والناشطين السياسيين من كل الاتجاهات، وفصل عشرات من الصحفيين وأساتذة الجامعات ونقلهم لوظائف أخرى خارج مؤسساتهم. ولحقت بهذا الدستور المسمى بالدائم تعديلات أخرى على عهد السادات، وعلى عهد خلفه مبارك دعمت كلها من حكم الفرد الذى لا يمكن أن يؤسس لأوضاع دائمة.
ثورة يناير استهدفت وضع دستور جديد يعكس تطلعها إلى ترجمة شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية التى رفعتها إلى أسس نظام سياسى جديد، وربما سعى دستور ٢٠١٤ بقدر علاقات القوة بين مؤسسات الدولة التى أشرفت على صياغته إلى ترجمة هذه الشعارات، ولكن هذا الدستور بدوره تعرض للتعديل فى سنة ٢٠١٩ فى مواد أساسية تتعلق بنظام الحكم ،وأيا كانت مبررات هذه التعديلات ،إلا أنها تضفى طابعا انتقاليا على أحكام هذا الدستور لتناقضه مع تطلعات ثورة يناير لإقامة نظام سياسى لا يتسم بتركيز سلطات واسعة فى يد رئيس الجمهورية، ولا يلغى استقلال الهيئات القضائية. كما ساهمت بعض الممارسات السياسية بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ فى تدعيم السمات الانتقالية لنظام الحكم، فلم يعد مجلس الوزراء مشاركا فى وضع السياسات والإشراف على تنفيذها، فكل رؤساء مجلس الوزراء يؤكدون على أنهم ينفذون برنامج الرئيس، ويتابع الرئيس بنفسه تنفيذ برنامجه .
ولكن ما الذى نفتقده فى مصر حتى لا يقال إننا نعيش فى ظل أوضاع انتقالية؟ أليس لدينا رئيس منتخب؟ أو لم تقل إلى أدنى حد الأعمال الإرهابية، وتوقفت الاحتجاجات الجماعية التى اتبعت أساليب التظاهر والإضراب مما كان شائعا فى السنوات الثلاث التى أعقبت ثورة يناير؟ أليس لدينا مجلسان نيابيان يمارسان مهامهما فى مناقشة سياسات الحكومة ومشروعات قوانينها، وتضطر تحت ضغط المناقشات فى هذين المجلسين إلى العدول أحيانا عن بعض هذه المشروعات. كل هذا صحيح، ولكن إذا كان استقرار القيادات والسياسات، بل والجماعات الحاكمة هى عناصر أساسية فى أى نظام سياسى، فهى ليست العناصر الأهم. فلابد أن تتوافق القيادات والسياسات والجماعات الحاكمة مع القواعد المؤسسية لهذا النظام ومع الثقافة السياسية السائدة. بل إنه يمكن أن تتغير القيادات والسياسات والجماعة الحاكمة ولا يتأثر الاستقرار السياسى طالما أن هذا التغيير جرى وفقا للقواعد المؤسسية والثقافة السياسية فى الدولة التى جرت فيها هذه التغيرات.
خذوا مثلا حالة المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة. تغيرت قمة السلطة التنفيذية فى البلدين عدة مرات، وتغيرت معها السياسات. انتقلت السلطة من حزب العمال فى بريطانيا إلى حزب المحافظين واقترن ذلك بتغير القاعدة الاجتماعية للجماعة الحاكمة من قسم كبير من الطبقة العاملة ومن الطبقة الوسطى إلى قسم آخر من الطبقة الوسطى والطبقة العليا، ومع ذلك لم ير أحد أن انتقال رئاسة الحكومة من تونى بلير وخلفه جوردون براون إلى مارجريت تاتشر ومن أعقبها من قيادات المحافظين وصولا إلى بوريس جونسون كان هزة للاستقرار السياسى فى بريطانيا، وعرفت الولايات المتحدة انتقالا للسلطة من الحزب الديمقراطى فى ظل زعامة باراك أوباما ليخلفه الحزب الجمهورى بزعامة دونالد ترامب وليعود الحزب الديمقراطى إلى البيت الأبيض مع جو بايدن. اختلفت السياسات مع هذه التغيرات فى القائمين على السلطة التنفيذية، ولكن لم يمثل ذلك تهديدا للاستقرار السياسى لأن هذه التغيرات جرت وفقا للقواعد المؤسسية التى تستند إلى قواعد دستورية مكتوبة وعرفية كما أنها تتوافق مع الثقافة السياسية فى كل من البلدين والتى تشربت قيم الديمقراطية، حتى وإن كانت هذه القيم تلقى معارضة من بعض مواطنيهما بل وبعض القيادات أيضا. ولا يدعى أحد أن مقولة الفترة الانتقالية تنطبق على أى من البلدين، فقد خرجا من هذه الفترة الانتقالية بعد مرحلة من الثورات والحروب الأهلية انتهت فى بريطانيا منذ ثلاثة قرون وفى الولايات المتحدة منذ أقل من قرنين. وهكذا يمكن القول باختصار أن العناصر الأساسية فى الاستقرار السياسى ليست هى بقاء نفس القيادات على قمة السلطة أو ثبات ذات السياسات أو تمسك جماعات معينة بتلابيب السلطة ولكن أن يقوم النظام السياسى على حكم القانون المتوافق مع الثقافة السياسية السائدة فى البلاد.
ولكن لابد من التوضيح أن المقصود بحكم القانون ليس هو أى نص يخرج عن السلطة التشريعية. بل إن القانون الصحيح الجدير بطاعة الشعب هو الذى يتسم بالعمومية فينطوى على قواعد عامة موضوعية تعالج قضايا أو أوضاع تحقق مصلحة لكل أفراد الشعب حتى وإن اقتضت من بعضهم تضحيات تفوق ما يتحملها غيرهم مثل الضرائب التصاعدية، ولا تصدر استجابة لنزوة أو هوى جماعات محدودة، كما أنها تتسم بالشفافية، ولا تخاطب أوضاعا مؤقتة تزول بعد حين، كما أنها تتسم بالتوازن فيما تطرحه من أعباء وتتيحه من مزايا لأقسام مختلفة من الشعب. كما أنه يستند إلى سلطة تستطيع إلزام من يخرج عليه بالعودة إلى طاعته.
سيادة حكم القانون بهذا المعنى يجعل الشعب على اختلاف أوضاعه الطبقية وخلفياته الثقافية يشعر بالطمأنينة، فهو يعرف مقدما ماذا يتوقع من السلطة، وماذا يفعل عندما يخرج أحد على حكم القانون وينتهك حقوقه، فيتفرغ لمزاولة أعماله، ويكرس الموهوبون منه وقتهم وجهدهم للإبداع فى مجالات العلم والفن والأدب، وتسود روح الأخوة بين أفراد الشعب، ويشعر بالاحترام للسلطات التى تدير أموره لأنها تلتزم مثله بحكم القانون، ولا تجد هذه السلطات مشقة كبيرة فى متابعة تجاوبه مع روح القانون وليس فقط نصوصه.
متى نخرج من المرحلة الانتقالية؟
هكذا ترون أعزائى القارئات والقراء أن المسألة بسيطة إذا كنا نريد حقا الخروج من المرحلة الانتقالية. علينا فقط، حكاما ومحكومين، أن نلتزم بصحيح القانون، وأن نعيد صياغة بنيتنا الدستورية والقانونية بما يتفق مع تطلعنا إلى نظام حكم مدنى دستورى، كما يقول رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ولا يجب أن نستسلم للادعاء بأننا شعب ليس مثل الشعب الأوروبى، فقد خرجت منه فى أوقات الأزمات أعلى صور التمسك بالمواطنة الصحيحة. ألم تنخفض معدلات الجريمة وقت حرب أكتوبر ١٩٧٣؟ أولم يتكاتف الشباب المسلم والمسيحى ويصلون معا فى ميدان التحرير؟ ويتكفلون بتنظيف الميدان أثناء ثورة يناير التى يهيل البعض عليها التراب؟ ومع ذلك يصر بعض من يمارسون السلطة على إبقاء أوضاع انتقالية فيتجاهلون أبسط مبادئ حكم القانون، وتطلب السلطة التنفيذية من المحكمة الدستورية أن تسمح لها بعدم الاستجابة لقرارات المنظمات الدولية التى انضمت لها مصر أو أحكام المحاكم الأجنبية خروجا على صحيح القانون.
سوف نخرج أيضا من المرحلة الانتقالية عندما نسوى خلافاتنا من خلال الحوار وليس من خلال القمع أو التجاهل، ولتكن نقطة البداية هى تطبيع العلاقات بين رئاسة الدولة وقطاعات من الشعب يغيب عن لقاءاته مثل رجال الأعمال والمثقفين ومنظمات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية التى لقيت الكثير من هجوم الإعلام عليها بلا سند مقنع، وكذلك الشباب خارج تنسيقية الشباب. عندما نشرع فى عمل ذلك تكون تلك خطوات صحيحة للخروج من المرحلة الانتقالية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved