خوف مازن معروف الذي لا ينام

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 4 يوليه 2023 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

لا أعرف كاتبا عربيا يمثل الخوف موضوعا رئيسيا فى أدبه كما يفعل القاص الفلسطينى مازن معروف، ولمن لا يعرف يقف معروف اليوم فى طليعة كتاب القصة العرب، بعد 3 مجموعات قصصية وبعض قصص الأطفال والكثير من الترجمات، وهو مخلص تمام الإخلاص لهذا الفن النادر، حيث لم تنجح الرواية فى إغوائه حتى الآن على الأقل.
وفى مسيرته القصيرة فاز معروف بجائزة الدورة الأولى لجائزة الملتقى المخصصة للقصة القصيرة والتى تمنح فى الكويت 2016 عن مجموعته الأولى (نكات للمسلحين) ورشحت ترجمتها الإنجليزية للفوز بجائزة البوكر البريطانية عام 2019 فى السنة التى فازت بها العمانية جوخة الحارثى.
وهذا العام أصدر مازن معروف مجموعة جديدة تحت عنوان «كيوم مشمس على دكة الاحتياط» عن دار نوفل فى بيروت وهى تؤكد من جديد تفرد عالمه وحساسيته البالغة.
تدور قصص معروف فى أجواء حرب، وتستمد منها لغة شعرية مذهلة فى تقصى الخراب، كما تطغى عليها أجواء سيريالية وعبثية، تحفل بالأحداث المأساوية وبفجائع لا نهاية لها وتعطى قصته (فان) المثال الأهم الدال على هذه السمة وهى عن مشاهدات بصرية تشغل عقل الراوى وهو داخل سيارة ميكروباص صغيرة تنتقل به من ضيعة إلى أخرى وتجعله على وشك ارتكاب جريمة قتل للسائق لسبب تافه يرتبط بإصرار السائق على أن يمسد شحمة أذنه طوال الطريق لكنه الراوى يستطيع تكوين سردية متتابعة عن العالم داخل السيارة وما ينتج عنه من مفارقات وعلاقات بين ركابه.
تظهر فى قصص مازن الكثير من تناقضات الحياة اليومية على نحو مثير، لكن ما يميزها حقا أنها غالبا ما تضع الأطفال فى موضع البطولة، وهذه سمة تجعل من عالمها قريبا وبسيطا يأتى من مخيلة متدفقة ومتجددة تسخر من السلطة التى تأتى عادة من العائلة أو من رب العائلة ذاتها، وفى ظنى أيضا أنه أكثر الكتاب انتهاكا لفكرة العائلة. وجانب رئيسى من مشروعه يقوم على تفكيك روابطها والتخلص منها سرديا ولدينا فى المجموعة قصصا كثيرة تدل على هذا الطموح كما فى قصتى (غذاء عائلى /نسرين) وتعد الأخيرة من أكثر القصص عذوبة.
ومن جهة أخرى يبدو للقارئ أن الأبطال الذين يختارهم دائما على طرفى نقيض، فهم إما ضحايا أو مجرمون.
لا يغفل القارئ عن المساحة التى تحتلها ألعاب الأطفال داخل عوالم القص بحيث تبدو أحد أهم المفردات ما يجعل القارئ يؤمن بأن الكتابة كما يفهمها المؤلف واحدة من تلك الألعاب التى يجيد تركيبها أو التخلص منها.
وفى بعض الأحيان تقوم القصص على مفارقات تبدل الأدوار، ويدفع الكبار فيها ثمن براءة الأطفال كما فى قصة «حياة لا يحدث فيها شىء» التى تقوم على وشاية تبرع بها طفل عن والده الذى يرسم مسلحين فى زمن الحرب وعلى هذا الأساس جاءت الشرطة وألقت القبض على الأب الذى ظل مفقودا بالنسبة للعائلة التى غادرت سكنها وظلت الأم تلح على طفلها الذى أصبح كاتبا ليذكر الناس بما فعله مع والده فى صورة نعى يكتب على أمل لفت نظر الأب وهكذا إلى أن عاد الأب لعائلته دون أن يفكر فى استئناف الرسم من جديد.
وهناك قصة أخرى طريفة بعنوان (ورشة الأحلام) تعزز الشعور هذا بالعدم وانسحاق الأب أمام سلطة الجهات التى تتلصص عليها وبطلتها واحدة من السيدات اللواتى يقمن بقراءة الطالع وتفسير الأحلام لكنها تكلف طفل العائلة بمرافقة طفلها الذى يهوى الرسم لبعض الوقت لكن يكتشف أن الكوميكس والقصص المصورة التى يرسمها ابنها تعيد بناء عالم عائلته وتفضح أسرارها.
لأن البصارة نجحت فى استدراج واحدة من قريباته لتحكى لها ما يعيشونه من حوادث يراها الطفل مجسدة فى الرسوم، إنه الخوف المتأصل من الرقابة والكشف والانتهاك.
وفى قصة أخرى يروى مازن عن أب مريض بالمستشفى وطفل يتراجع مستواه الدراسى لذلك تستدعى المدرسة أمه ويرصد كيف تطورت علاقتها مع والد زميل له فى الفصل يشاركه اللعب، ولأن الرصد يأتى من مخيلة طفولية لا يعتنى السارد إلا بما يدور بين الأطفال ومفردات عالمهم مثل القبلات البريئة ومشاهدة أفلام الكارتون وحلقات النينجا ترتلز والسخرية والتنمر الذى يمارس من قبل أطفال الحى مما يدفع الطفل السارد إلى التبول فى «تنك» بنزين سيارة رفيق أمه على سبيل الانتقام وتصحيح صورته أمام جيرانه من الأطفال المتنمرين.
يعتنى معروف بصورة مذهلة بما ينتج عن الإهانة وأفعال الانسحاق والآثار التى تنتج عن تلك الممارسات، يتأمل جيدا ما يمكن أن يعيشه أب مهزوم وبطل فى «حالة خوف دائم».
وفى قصة أخرى بديعة بعنوان (كروشيه) نتابع هواجس بطلتها سعدى التى تهوى عمل لوحات الكروشيه ولا تملك فى العالم سوى سحب الخيوط لكن أزمتها تولدت بعد أن فقد شقيقها بصره واعتقدت أنها السبب فى عماه، أمضت سعدى عمرها فى جمع الخيوط وظلت تفكر طوال الوقت أن عالم العمى أوسع من عالمنا وأكثر عمقا لأنه يأتى من صوت الأشياء ولذلك لم يعد حولها سوى الخواء لكن أصابعها تعمل بلا توقف إلى أن تمكنت بفضل شقيقها الأعمى من العثور على خيط الأرق.
تفيض قصص مازن معروف بالحيلة والمناورات التى يدبرها الأطفال للنجاة من واقعهم القاسى لكنها لا تأتى بعيدة عن الواقع الذى خلفته الحرب اللبنانية وظل اللبنانيون والفلسطينيون يدفعون ثمنها إلى الآن، فكلها قصص عمن نجوا من الحرب لكنها ظلت تعيش بينهم وتأكل معهم على نفس الموائد.
يعتنى كاتبنا بالأشياء غير المألوفة وفى كتاباته حس بالمرارة يصعب التخلص منه، إنها مرارة الخوف الذى لا ينام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved