النظام العربي والمسئولية عن تفتيت فلسطين لمحة عن توزع (الشعوب الفلسطينية).. كونيا!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 4 أغسطس 2009 - 7:43 م بتوقيت القاهرة

 تزامن رحيل المناضل والكاتب الفلسطينى شفيق الحوت مع بلوغ أزمة التنظيمات الفلسطينية، سلطوية معارضة أو معارضة سلطوية، ذروة التفجر بما يهدد جوهر القضية التى كانت مقدسة، وكانت الإطار الجامع لكل العرب والتى تقدمهم للعالم بصورتهم الأصلية: مدافعين عن حقوقهم فى أرضهم، ومن أجل حقهم فى غد أفضل.
ولعل كثيرين قد «حسدوا» شفيق الحوت على أنه قد غاب قبل أن ينطفىء ما تبقى من آمال عربية كانت معقودة على هذه القضية التى صارت مقدسة بفعل ما قدم أهلها ــ فى فلسطين ومن حولها على امتداد الوطن العربى وبعض العالم الإسلامى ــ من تضحيات غاليات.

فى البدء كانت فلسطين..

ومن حول فلسطين، ونتيجة للاجتياح الإسرائيلى لأرضها، فى غمرة تواطؤ دولى شامل وغفلة عربية معززة بالتفتيت الذى كان قد ضرب المشرق العربى فجعله دولا شتى لا تملك أى منها مبررات للوجود أو مقومات لاستمرار الكيانات الهشة، فضلا عن أن أقطار المغرب كانت لا تزال تحت الاستعمار الغربى مباشرة، صار للعرب «قضية مقدسة» تلخص طموحاتهم إلى التحرر وإلى إعادة بناء دولهم على قاعدة روابطهم الأصلية (وحدة الأرض، وحدة الأصول، وحدة المصالح ووحدة الطموحات إلى مستقبل أفضل).

كانت فلسطين أرضا عربية لشعب عربى واحد، هذا إذا ما تناسينا حقائق الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا الإنسانية التى كانت تجعلها «جنوب سوريا».

بعد إقامة إسرائيل، على أرض فلسطين، بالقوة العسكرية والتواطؤ الدولى والغفلة العربية، (إذا ما استذكرنا ما تواتر عن خيانات وعن صفقات مبادلة أرضها بعروش ودول لم يكن لها ذكر فى التاريخ أو الجغرافيا أو حتى الشعر..)، كان على العرب أن يواجهوا ــ مجتمعين ــ تحديا غير مسبوق يتهددهم فى حلم التوحد كما فى كياناتهم التى اصطنعت على عجل فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتى بالكاد كان بعضها قد نال شيئا من الاستقلال عن مستعمريه (الفرنسيين فى لبنان وسوريا والبريطانيين فى فلسطين وإمارة شرقى الأردن والعراق) عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية وغداة إقامة دولة إسرائيل بالقوة على بعض الأرض الفلسطينية الخاضعة للانتداب البريطانى.

منذ تلك اللحظة فى العام 1947، فرض على العرب أن يواجهوا تحديا لم يكونوا مستعدين عمليا لمواجهته، خصوصا وأن شعورا ممضا بأنهم كانوا ضحية خديعة دولية قد لازمهم باستمرار، لا سيما وأن خسارتهم فلسطين كانت تنذر بفرض التفتيت عليهم كسنة حياة!.

ففى فلسطين وعبرها تم تفتيت الشعب، وتفتيت الأرض، وعبر اختلاف العرب وعجزهم تم تفتيت القضية، وتفتيت جمعهم، صار الشعب الفلسطينى، الذى طرد نصفه من أرضه إلى الأقطار المجاورة، أربعة أو خمسة «شعوب»: بعضها تحت الاحتلال الإسرائيلى مباشرة فى الكيان الذى اقتطع بالقوة بعض أرض فلسطين (1948)، وبعضه تم تهجيره إلى لبنان، والبعض الآخر إلى سوريا، أما القسم الأكبر فكان مابقى فىما صار يعرف بـ«الضفة الغربية» لنهر الأردن الذى لن يتأخر التآمر الدولى عن ضمها الى إمارة شرقى الأردن لتغدو بعض المملكة الأردنية الهاشمية..

هذا فضلا عن الذين تشردوا فانتشروا فى ديار الشتات، وكان من حظ بعض أقطار الخليج التى ستستولد لاحقا أن أفادت من خبرات هذا الشعب الذى كان الأعظم نصيبا فى العلم وشئون الإدارة.

صار الفلسطينيون «شعبا كونيا» بل مجموعة شعوب كونية، خصوصا أن أنظمة «الأخوة العرب» قد ضاقت ذرعا بمجاميعهم، لا سيما بعد انتشار فكرة الكفاح المسلح لتحرير الأرض المحتلة، فاندفعوا يطلبون الهجرة إلى أى مكان.. وقد تم توفير تسهيلات استثنائية لقبول الآلاف منهم فى كل دولة من دول شمالى أوروبا (الدانمارك، السويد، النرويج) فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض دول أفريقيا واستراليا..

الفلسطينى الوحيد الذى بقى «فلسطينيا» هو من بقى فى الداخل، وفرض عليه أن يصير إسرائيلى الجنسية (وحوالى المليون ونصف المليون من هؤلاء الفلسطينيين بجنسية إسرائيلية مفروضة مهددون اليوم بالطرد من أجل أن تتطهر إسرائيل لتكون دولة يهودية خالصة).

بعد هزيمة 1967 تم تشطير فلسطين: باتت غزة قطاعا محتلا مفصولا عن سائر الأرض الفلسطينية (الضفة الغربية)، التى احتلتها القوات الإسرائيلية وأخذت تعد العدة لضمها إلى كيانها بادعائها «الدينى» أنها بعض أرض اليهود التوراتية (يهودا والسامرة)..

أما بعد حرب أكتوبر 1973 بكل بطولات الجيشين المصرى والسورى فيها، والتى مسخت تماما فى زيارة القدس، ثم استولدت منها ــ بطريقة قيصرية ــ معاهدة الصلح المصرية، فمعاهدة الصلح الأردنية، وقع العرب مرة أخرى، فى محظور التشتت إلى حد القطيعة والحروب السياسية المفتوحة.

ثم كان «اتفاق أوسلو» الذى ألغى ــ عمليا ــ الثورة الفلسطينية ومعها منظمة التحرير الفلسطينية ليستولد «السلطة» التى أدخلت إلى بعض الضفة الغربية ومنحت قطاع غزة، المفصول بالقوة الإسرائيلية عن أهله فى الضفة.. وهكذا صارت «فلسطين الداخل» ثلاثة: بعضها تحت الاحتلال الإسرائيلى المباشر الذى يلغى هويتهم الفلسطينية، وبعضها فى الضفة الغربية محذوفا منها معظم ما يسميه الإسرائيليون «يهودا والسامرة»، ومحذوفا منها أيضا ما استهلكه جدار الفصل العنصرى الذى أقامه الإسرائيليون فقسموا «فلسطينيى الداخل» إلى مجموعات معزولة عن بعضها البعض، فى حين يوالى وحوش المستوطنين المستقدمين من شتى أنحاء العالم إقامة مستعمراتهم المسلحة على ما كان «ممنوحا» للفلسطينيين من أرضهم.. الوطنية!

وصارت «غزة» جزيرة معزولة عن سائر فلسطين، إلا برابطة «السلطة» الخاضعة للاحتلال الإسرائيلى.

فى الضفة الغربية صار الفلسطينيون شعوبا: بعضهم خلف جدار الفصل العنصرى، وبعضهم أمامه، وبعضهم عالقون بين المستعمرات الجديدة التى تقام بالقوة على ما تبقى من أرض لأصحاب الأرض... وبعضهم الثالث فى القدس (الشرقية) مهدد باستمرار وجودهم فيها، إذ بعد إحاطتها بالمستعمرات التى احتلت التلال من حولها وبعض أرضها وبعض الطريق إلى باقى مدن الضفة وبلداتها، باشر الإسرائيليون قضم أحيائها واحدا بعد الآخر، وآخر ما يتعرض الآن للقضم حى الشيخ جراح... إضافة إلى هجماتهم المتكررة على حرم المسجد الأقصى بذريعة التفتيش عن هيكل سليمان. وسليمان للمناسبة هو عند الإسرائيليين ملك على قرية، أى ما يوازى «العمدة» وليس نبيا بعكس ما يعتبره المسلمون.

على هذا فمن القسوة غير المبررة على الفلسطينيين أن نتهمهم بالتخلى عن أرضهم التى ما زالوا ــ حتى اليوم ــ يستشهدون فوق ترابها من أجل الحفاظ عليها، أو على ما أمكنهم ويمكنهم استخلاصه منها.

أما المحاسبة فتتوجب على النظام العربى الذى لا يفتأ يقدم التنازلات والمزيد من التنازلات لإسرائيل، من حقوق الشعب الفلسطينى فى أرضه، ومن مقتضيات السلامة والأمان لشعوبه (قبل العزة والكرامة والسيادة)، بما يهدد كياناتها ومستقبلها على أرضها «الوطنية».

لقد شجع النظام العربى منظمة التحرير الفلسطينية إلى التحول إلى حكومة لمشروع سلطة لا أرض لها.. وبالتالى فكلمة «دولة» تفيض عن واقعها لتغدو خديعة أو أكذوبة.

ثم إنه أبعد نفسه عن فلسطين، نفاقا للإدارات الأمريكية المتعاقبة، واسترضاء لإسرائيل ورد «شرورها» عن كياناته المتهالكة.

كذلك فإن هذا النظام العربى قد شجع، ورعى أحيانا، الخلافات التى تطورت إلى انقسامات ثم إلى «حروب» داخل الصف الفلسطينى، وكل ذلك بوهم حماية نفسه من خطر «العروبة».

وإذا ما انفصلت أو فصلت فلسطين عن العروبة توزع العرب أيدى سبأ، كما هو واقعهم، بل إنهم سيندفعون إلى مواجهات قد تتطور إلى حروب فىما بينهم لحساب إسرائيل والهيمنة الأمريكية.

لقد كانت فلسطين، ولا تزال، العنوان المجسد للعروبة: من خرج منها خرج من العروبة وعليها.

فلما خرجت مصر من فلسطين طويت أعلام القضية، وتقزم دور مصر وأصيبت العروبة فى صميمها.

والعرب كلهم حاليا فى الشتات: أتم النظام العربى تفتيتهم إلى قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وعناصر وأعراق مقتتلة، تحت رايات الاحتلال الإسرائيلى، كما فى فلسطين ومن حولها، أو تحت رايات الاحتلال الأمريكى كما فى العراق وما ومن حوله.

لهذا كله، وغيره كثير، يمكن اعتبار شفيق الحوت شهيدا جديدا لفلسطين التى تزاحم أبناؤها ــ تحت تغطية عربية ــ إسرائيلية ــ دولية ــ على تفتيتها ليمكن بعد ذلك التسليم بهزيمة عربية شاملة قد يستغرق النهوض منها مستقبل أربعة أو خمسة من أجيالنا الآتية.

الفلسطينيون «شعوب» مشتتة، والعرب أمم شتى، وإسرائيل دولة يهود العالم، والمجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام... الإسرائيلى!.

رحم الله الشهداء.. وآخرهم المناضل شفيق الحوت الذى قتله اليأس!.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved