هذه مدينتى وحلم حياتى

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الثلاثاء 4 أغسطس 2020 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

بين ماضٍ من الزمان.. وآتِ، مع الاعتذار عن استعارة تلك الصورة الشعرية من أغنيات السيدة أم كلثوم، غير أنها استوقفتنى حين قالت: وديارٌ كانت قديما ديارا.. سترانا كما نراها قفارا، فشدنى المعنى وراحت مخيلتى تستحث الديار أن تنطق بما ترانا به، أكما نراها قفارا خالية من الروح وآثارِ الحياة نصير نحن فى أعينها خالين من الروح والحس، ولكن.. كيف لها أن ترى إن كانت قفرا موحشا؟ وماذا إن كنا نراها قفارا ــ والعين ترى ما يعيه العقل ــ فلا هى قفرٌ ولا نحن أصحاب وعى، هنا تكمن الإشكالية فى العمارة والحس الإنسانى بها، بين أن تنظر للعمل المعمارى فتشاهده أو أن تبصر العمل المعمارى فتفهمه، إذا فهم العمل المعمارى لا يدرَك إلا بتبصر المعنى وراء الشكل، خاصة إن كان من عصر سابق تتوقف قيمته على إدراك المعنى فى مضمونه وشكله وقت إنشائه وما يعنيه من قيمة حضارية وإنسانية، واستدامة قيمته تلك أو فقدها تتوقف على مدى ما نكنه من تقدير لتلك القيم الحضارية والإنسانية، بل وتتوقف على مدى ما نتباهى به من إثباتات أننا أصحاب تلك القيم منذ فجر التاريخِ واستدامتهِ بين ماضٍ من الزمان.. وآتِ.
أكان يقصد الملك خوفو أن يبنى هرمه ليورثنا أثرا يصير أحد مصادر الدخل السياحى لمصر بعد حكمه بعدة آلاف من السنين؟ أم بناه مجرد قبر يرقد فيه على أمل القيامة فى مبنى مهيب؟ أم كان وراء القرار حكمة وليدة عقيدته وفلسفته أوعزها مهندسه حِم إيونو لتتفتق عبقرية الأخير عن أعظم الأعمال الهندسية المعبرة عن تلك الحكمة، وأودع فى تصميمه ما لم يمض عقد فى قرننا الحاضر إلا وانكشف من أسراره ما لم تنطق به أحجاره الصماء، فهى كما هى منذ وضعت فوق بعضها غير أننا أدركنا ما وراءها من حرفية ومهارة وإعجاز حين رأينا بأعين وعينا ما كان لتلك الحضارة من عظمة، فأكبرنا العمل كما أدهشنا الإتقان وصارت الأهرامات ذائعة الصيت ومحط الدراسات، تلك التى رآها البعض فى عهد من القرون الوسطى مجرد أكوام من الحجارة يقتنص منها ما يشاء ليبنى حضارته غير واعٍ أنه يكاد يهدم أعظم الشواهد على أعظم حضارة، ومازالت تفخر الدنيا بانتساب هذا الأثر لأعمالها البشرية، فهل كان يدرك خوفو أنه أتى فى زمن سيطلق عليه قبل الميلاد، أو أن من أتوا بعده بثلاثة آلاف عام سيبدأون عصرا يسمى القرون الوسطى، ومن يدرى كيف سيبصرنا التاريخ بعد ألف سنة وكيف ستأتى سيرتنا فى سياق نسبى يصوغه وعى المستقبل.
***
اعتاد التاريخ فى ململة أن يحكى استعمار بلدٍ لآخر، غير أنه اعتدل فى جلسته مرات حين يروى قصة مستعمر خاض بأطماعه مصر فما لبث أن لفظته أرضها أو صهره شعبها، بل من العجيب أن يشهد التاريخ أوج التنامى فى الازدهار بين الدول حين زاد التنافس بين حكام العصر السياسى الواحد من غير المصريين ــ فى غير سابقة ولا لاحقة ــ لإعظام حكم مصر وفرض هيبتها على كل قاصٍ ودانِ، عصر غاية فى التميز والحساسية التاريخية هو ما نطلق عليه عصر المماليك، الذى كان بالطبع فى وقتهم لم يسمَ بذلك، بل لم يخطر على بال أى من بادئيه أنه على أعتاب عصر ينتسب لهم ويتميز بهم، وعلى الرغم من أن شجر الدر الملقبة عصمة الدين هى زوجة الصالح نجم الدين أيوب إلا أنها فى الأصل جاريته التى بايعها المماليك سلطانة على مصر فى ظرف تاريخى خطير حيث الفرنسيون فى دمياط وسلطان مصر قد مات، فتصير شجر الدر هى أول سلاطين عصر المماليك، غير أنها لم تكن أول المماليك فى حكم مصر قاطبة، فقد سبقها لذلك التصنيف أحمد بن طولون مملوك الخليفة أبو العباس الذى ولاه حكم مصر فاستقل بها، ولم يغب المماليك عن دوائر الحكم فى مصر ما بين تولى المناصب العليا فى العهد الفاطمى إلى المناصب القيادية فى العهد الأيوبى ثم اعتلاء عرش مصر منذ عام 1250 حتى عام 1517م.
كان الظرف التاريخى سياسيا عسكريا، فانتصر المصريون عسكريا وأسروا ملك الفرنجة وانتصروا سياسيا واستعادوا دمياط، وما أن بدأ سعى المماليك لتوطيد أواصر حكمهم بين وجود التهديد الأوروبى من ناحية وادعاء الأيوبيين بعدم شرعية حكم المماليك من ناحية أخرى، يهتز سلطان العالم الإسلامى بزحف المغول، وتتساقط العروش والممالك وتتطاير أنباء الفظائع والمهالك، حتى يصير الظرف التاريخى ذود عن العقيدة نفسها وتتلملم أطراف البقاع الإسلامية لتختصر فى درة بلادها وتاج عزها.. مصر، وتتجندل جيوش المغول فتاتا يجتازها جيش مصر ليسطر ملاحم البطولة والفخار، وكان معظم من حكم مصر من المماليك تدرج فى مراتب الجندية حتى كان فارسا قديرا، ومن ورث منهم العرش وهو غير كفء أزيح عن الحكم، وسعى كل من اعتلى منهم عرش مصر لتخليد اسمه فى حماس فتنافسوا فى البناء والعمارة وزخرفتها فتضافرت فى عهدهم ثقافات أصولهم وتنوعت الطرز، وأسهم فى تأصيلها الطابع المصرى فغدت آثارهم لكل أسرة منهم وفرد تحفا قلما تتكرر، تلك حقبة المماليك التى دامت فى عمر مصر 267 سنة، تحالفوا أو تآمروا فيما بينهم فقد تابع الشعب قصصهم كما يتابع قصص تحاك، فلا هو مستشعر قيادة ابن البلد ولا هم متفرغون يحكمون على أساس قاعدة شعبية، فكان الشعب يشكو حين يضام وقد ينصف، ويشدو بهم حين يميل على عدوٍ فينصر.
***
والغريب أن كثيرا منهم حازوا محبة الناس، ليس لقصص دهاء شجر الدر ودرامية مقتلها فقد خرج الناس منه بطبق حلوى أم على درة شجر الدر الذى اخترعته ووزعته فى الشوارع فرحا لموتها، ولكن منذ انتصار المظفر قطز على التتار واتخاذ الناس مدفنه مزارا فنقل رفاته إلى الجبانة الصغرى بالقاهرة، وصدهم الحملات الأوروبية التى جرت تحت شعار الصليب فدغدغ ذلك مشاعر الناس وصارت حواديت بطولات، واتسعت رقعة السلطنة المصرية على عهدهم حتى شملت الشام والحجاز وبدأ المحمل الشريف يخرج من مصر ليكسى الكعبة المشرفة فى احتفال شعبى، وهَزَموا على يد جند مصر كل من دنا منها طامع واحتضنوا كل من دخلها طامح، حتى الأشرف بارسباى الذى أثقل عليهم الضرائب قضى على شوكة الحملات الصليبية فى قاعدتها بقبرص وضمها إلى ملك مصر، ثم السلطان الغورى الذى استشهد دفاعا عنها ضد غزو العثمانيين، وعلى الرغم من دخولهم مصر وإعدام سلطانها طومان باى الذى بكته الجماهير وخرجت فى جنازته حشود لم تشهدها القاهرة من قبل، فإن سلطان العثمانيين سليم الأول وزع نقودا ذهبية على الفقراء تطييبا لخاطر الشعب وعبر عن تقديره لشجاعة طومان باى، ذلك عهد من تاريخنا وتاريخ بلدنا نادر الصياغة، ملك لنا وليس وقفا على مملوك بل سطرناه معا بصبر وجلد، وقوة جيش وحكمة قادته الشعبيين ورموزه الدينية والاجتماعية مع حكامه، لنا أن نفخر بهزيمة المغول ودحر الحملات الصليبية وسعى التتار لمهادنة مصر بل وتبادلنا السفراء معهم فى العهد التيمورى.
فكما كتب الفرعونى على معابده ومقابره، نقش المملوكى على مساجده ومدافنه، وسطر أمجاد حكمه وعبر عنها فى بناياته وترك فيها دلالات حكمته وبيان سريرته، يعيها كل مختص ويبرزها كل أمين على تاريخنا العريق، وفى مجملها قصة شعب استوعب فى تلك الحقبة كل ذلك التباين فى أصول الحاكم لينسج قصته التى يراها ويدركها كل ذى وعى بروح تلك الفترة من تاريخ مصر، حدودها مصر المحروسة ما بين القاهرة الفاطمية والجبانات المملوكية وقلعة الجبل، ذلك المتحف العمرانى التاريخى المفتوح الذى يؤصل عقيدتنا بقوة وتماسك شعبنا فى وجه الشرق والغرب، هم فقط ذرية المغول والتتار وأوروبا الاستعمارية الذين يتمنون زوال أثر تلك الحقبة من على وجه الأرض، لنا أن نفخر بها ونبرزها ونبقى على ذاك الجزء من قاهرتنا المتسعة والآخذة فى الاتساع فلا مدت يد عابث على تراثنا النابه، الذى عانى إهمالا تعاقب على يد مسئولين جل همهم أثرى فرعونى الهوى، التاريخ ليس أثرا بل استحضار روح عصر بين أثر وخبر، التاريخ فى مصر كامتداد أرضها له وحدة ودلالة حضارية، مدينتى ما بين تأصيل الماضى ليتربى على عبره وعظاته أولادى، وفخر الحاضر بين الأمم بأفعالى ودلائل تاريخى، هذه مدينتى وحلم حياتى أن تزدهر آثارها على مر عصورها تؤكد قيمنا الحضارية والإنسانية، وأمل فى مستقبل غاية فى التمدن والرقى نعى كيف أدركناه بعريق الحضارة والتاريخ البهى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved