ذاكرة الشرق الآسيوى: ما فعلناه بأنفسنا

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 4 سبتمبر 2016 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

لم يكن رئيس الوزراء «جواهر لال نهرو»، أهم شخصية سياسية فى التاريخ الهندى، مقتنعا بمقاطعة إسرائيل وعزلها عن حركة العالم الثالث للتحرر الوطنى وسحب دعوة وجهت إليها للمشاركة فى مؤتمر «باندونج» عام (١٩٥٥).
كانت قد أرسلت فعلا دعوة لإسرائيل، وبدا الأمر محرجا أمام اعتراض الرئيس المصرى «جمال عبدالناصر».

تساءل: «أليست إسرائيل دولة آسيوية؟».

بدا معتقدا أن مصر باعتراضها تتمسك بشكليات لا تقتضيها طبيعة الحقائق، ثم إنها تخلط بين مشكلة داخلية وبين قضية عالمية يمثلها مؤتمر يستهدف مواجهة الاستعمار والقضاء عليه وفتح الطريق أمام حركة التحرر الوطنى.

وفق رواية الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، الذى حاوره فى القضية الشائكة كصحفى مقرب من زعيم يوليو: «لنقل إنها تحتل رقعة أرض فى آسيا، لكنها ليست آسيوية بالقطع» و«إسرائيل ليست غير رأس جسر للاستعمار على الشاطئ الشرقى للبحر الأبيض ومشاركتها ضد الطبيعة»، طبيعة «باندونج» وطبيعة إسرائيل.

فى نفس اليوم حسم «عبدالناصر» ــ أثناء المباحثات الرسمية بالقاهرة ــ كل سجال فإما مصر والعالم العربى وإما إسرائيل.

بلا اقتناع حقيقى استجاب «نهرو» خشية تفكك حركة عدم الانحياز قبل أن تولد فى «باندونج».

بحكم السياسات العملية لم يكن ممكنا تجاهل الدور المحورى المصرى فى قيادة تلك الحركة.

فيما بعد أبدت الهند ارتباطا قويا بقضية العرب المركزية فى ظروف ما بعد هزيمة (١٩٦٧)، وقف بجوار مصر فى محنتها، كأن المصير واحد والهزيمة مشتركة، وقد وصلت العلاقات إلى ما يشبه التوءمة الاستراتيجية.

القصة المثيرة تكاد تكون مجهولة باستثناء إشارات، كأن الشرق الآسيوى كان يوافقنا فى النظر إلى إسرائيل قبل أن يغير مواقفه.

عندما تغيب حقائق التاريخ لا ندرك ما الذى جرى بالضبط.

فالمعانى تهدر فى السياسة والدروس تبهت فى المخيلة.

تبدو مثيرة للسخرية الآن فكرة دمج إسرائيل فى حركة عدم الانحياز، لكنها كانت مطروحة بإلحاح من بعض الدول المؤثرة.

الحقيقة التى يجب ألا ننساها أن أحدا لا يدافع بالنيابة عن قضايا الآخرين إذا لم يدافعوا هم عنها ويعرضوها بكل وضوح واستقامة.

عندما تتنكر لقضاياك فلن يحترمها أحد آخر.

هذا ما حدث بالضبط فى العلاقات المصرية ــ الهندية.

لم يكن ممكنا أن تطلب من الأصدقاء السابقين الالتزام بأى مصالح أو حقوق عربية إذا كنت قد تخليت عنها وأخذت تسفه بنفسك من عدالتها عند توقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» عام (١٩٧٨).

فى أجواء التخلى جرى اندفاع هندى إلى مد الجسور مع إسرائيل، وارتفعت بنسب عالية مستويات التعاون الاقتصادى والتقنى والعسكرى، فيما تراجعت بفداحة أى رهانات على مصر وأدوارها
.
لم تكن الهند وحدها.

أرجو أن نتذكر أن مصر فى تلك الأيام الحاسمة من عام (١٩٥٥) ساعدت الصين ــ بأوفر دور ممكن ــ على كسر الحصار المفروض عليها.

وقف رجل آخر من صناع التاريخ الكبار، رئيس الوزراء الصينى «شواين لاى»، فى مطار عاصمة «بورما» ينتظر ــ بالمخالفة لكل قواعد البروتوكول ــ الرئيس المصرى الشاب القادم من نيودلهى فى طريقه إلى «باندونج»، حيث يوشك التاريخ أن يتحرك على نحو جديد فى العالم الثالث، وقد نشأت علاقة مصرية ــ صينية وطيدة على أساس من القضايا والمعارك والمصالح المشتركة.

صداقات الدول تنشأ على قواعد المصالح الاستراتيجية، لا هى رحلات خلوية فى أمسيات الصيف، ولا مصافحات عابرة فى عرض الطريق.

الدنيا الآن اختلفت عما كانت عليه فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، والمصالح الاستراتيجية تفوق كلمتها أى كلمة أخرى، كما هى العادة دائما.

نحن نتحدث عن صين ناهضة وقوية تتطلع فى مدى سنوات إلى تصدر التصنيف الدولى كأقوى اقتصاد فى العالم، لا بلد محاصرا يعانى عزلة دبلوماسية فى الغرب، وصداماته السياسية والأيديولوجية مع الاتحاد السوفيتى تضعه أمام منحدرات خطرة.

ونحن نتحدث عن هند جديدة تنازع بقوة التنين الصينى على معدلات التفوق والقوة، لا بلد يعانى بقسوة من الفقر والحرمان وتبعات الاستعمار البريطانى الطويل الذى تحرر منه بالكاد.

كلا الرجلين «نهرو» و«شواين لاى» تمكن فى ظروف مختلفة تحت العباءة الروحية لـ«المهاتما غاندى» والسياسية لـ«ماو تسى تونج» من إعادة هندسة الدورين الهندى والصينى على نحو سمح بتوفير قاعدة صلبة للانطلاق المستدام.

لم يحدث شىء من ذلك فى مصر، فمن مقتضيات أى تقدم ممكن استطراد التراكم فى الخبرات.

ما جرى العكس بالضبط، فقد أهدرت الموارد التاريخية فى علاقات مصر الخارجية كما أهدرت بالضبط مواردها الاقتصادية.

ما يستحق السؤال، ومصر تطل مرة بعد أخرى على الشرق الآسيوى ووعوده: ما الذى جرى؟ وماذا فعلنا بأنفسنا؟
التراكم ضرورة أولى، ونفاذ المشروع ضرورة ثانية، والحفاظ على قوة الدفع ضرورة ثالثة.

إذا لم يكن هناك نظام حديث وديمقراطى يجدد فى مشروع يوليو دون ثغرات نظامه فإنه يصعب التعويل على أى نجاح.

المثير فى قصة الشرق الآسيوى الجديدة أن الصين عيونها مفتوحة على الهند أكثر من أى بلد آخر فى آسيا، بما فى ذلك اليابان ومن يسمون بالنمور.

بالمقابل فإن الهند تتابع بالتفاصيل ما يجرى فى جارتها القوية وتنظر فيما يمكن أن تتبناه من سياسات تسمح بملاحقتها إلى القمة.

وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ــ القوة الأولى حتى الآن ــ فإن استراتيجيتها الدولية تحول مركز ثقلها إلى الشرق الآسيوى، حيث المصالح الكبرى والتحديات الهائلة فى القرن الحادى والعشرين.

هذه حقائق اليوم، فإذا لم ندركها فاتنا قطار القرن الجديد.

لأى بلد تاريخه، والتاريخ ليس قصصا تحكى بقدر ما هو دروس ينبغى تعلمها حتى لا نكرر الأخطاء نفسها مرة بعد أخرى.

بتعبير الأستاذ «هيكل» فى حواراتنا الممتدة عن تحولات السياسة الخارجية بين العصور: «لا تراهن على التاريخ وحده أيا كان بريقه، فالمصالح تسبقه فى العلاقات بين الدول».

‫«‬قد تساعد العلاقات القديمة فى التمهيد لتبادل لغة المصالح بشىء من الود، لكن لا تنس أنها مجرد تمهيد قبل الدخول فى صلب المصالح المتبادلة».‬

مع ذلك فهو لم يكن مستعدا لنسيان ما فعلناه بأنفسنا حتى تردت المكانة فى حسابات عالمنا.

عند إعلان الرئيس الأسبق «أنور السادات» أن «٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة» بدت مصر أمام انحدار استراتيجى.

هذه المقولة بالذات دعت الشرق الآسيوى إلى التفكير بطريقة أخرى، نحّت مصر وانفتحت على إسرائيل.

نفس المقولة دعت الدول الإفريقية إلى الابتعاد عن الدولة التى لعبت أكبر الأدوار فى تحريرها وبناء منظمة الوحدة الإفريقية التى تحولت تاليا إلى الاتحاد الإفريقى.

عندما لا تنظر لبلدك باعتبار فلن يضعها أحد فى أى اعتبار.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved