القلوب مفاتيح البيوت

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 4 سبتمبر 2019 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

فى حقيبتى أربعة مفاتيح، كلها مفاتيح بيوت إما عشت فيها حتى وقت قريب أو منازل عرض على أصحابها أن أستخدمها أثناء انتقالى إلى بيتى الجديد فى المدينة الجديدة. تحدث المفاتيح ضجة محببة فى الشنطة حين أحركها، وتقع عليها يدى حين أبحث عن قلم أو تفاحة فى الشنطة ذاتها. وفى كل مرة أمسك فيها مفتاحا أفكر فى البيت الذى يمكننى أن أبات فيه لو أغلقت فى وجهى أبواب الدنيا، فأصحاب البيت يستقبلونى فيه لذا أعطونى المفتاح.
***
أعمل منذ سنوات عديدة فى المجال الإنسانى وألتقى بحكم عملى وبحكم تطور العلاقات الإنسانية بأشخاص تركوا بيوتهم قسريا بسبب الحروب والنزوح. لكل منهم قصص عن مفاتيح تركوها على أبواب منازلهم حين فروا، أو مفاتيح احتفظوا بها فأصبحت أشبه بقفل يقفل علبة ذكريات منه مفتاحا لباب منزل سوف يعودون إليه.
***
إذا اتفقنا أن للبيوت أسرارا يغلق أصحابها أبواب المنازل عليها، فسؤالى دوما هو عن الأسرار التى فقدت أصحاب بيوتها. إن رحل الناس هل تبقى الأسرار هناك؟ أم يحملونها معهم أثناء الترحال، حطت معهم فى مكانهم الجديد، ويصبح مفتاح المنزل القديم هو حافظ السر؟ أتخيل وجوها كثيرة وأصواتا وألوانا وروائح جلها ولدت فى المطبخ تنتقل كمجموعة، نعم هى مجموعة حواس أربطها بمطبخ البيت حيث الحركة والنقاش والتحضير للعيد، مجموعة حواس تركب عربة خاصة خلف أصحاب البيت حين يرحلون وتصل معهم إلى المكان الجديد. لا تفرد الضحكات أجنحتها داخل الحيطان الجديدة بعد فهى لا تعرفها. لا تلتصق رائحة كعك العيد بالجدران فالجدران غريبة ولا يبدو عليها أنها سعيدة باستقبال سكان جدد. تنتظر الضحكات أن تتآلف العائلة مع المكان الجديد قبل أن تبدأ بالحركة بينهم.
***
لا يخلو بيت من مفاتيح كثيرة لا يعرف أحد أصلها لكن يستصعبون رميها، قد تكون لها فائدة سوف تظهر حين يتحقق الحلم بالعودة، أو قد تفتح أبوابا سرية داخل خزانة مخفية خبأ فيها أسلاف أهل المنزل كنزا سوف يظهر فجأة. أو قد تفتح المفاتيح علبة خشبية قفلها صدئ وخشبها مطعم بالنحاس الذى صدئ هو الآخر من طول سنين الانتظار دون أن يلفت إليها أحد. فى العلبة قصص لم ترو بعد عن عائلة تركت كروم الزيتون منذ سبعين سنة وأخذت معها مفتاحا وعلبة خبأت فيها على عجلة قصة حب تواعد أصحابها بالعودة والزواج هنا، أمام المنزل، حين تعود عائلتهما. اليوم، ثمة مفتاح وعلبة فى مكانين بعيدين كل البعد عن بعضهما، فالأسرتان لم ترجعا ولم يفتح الشاب ولا الشابة العلبة خاصتهما منذ يوم الفراق. غزت التجاعيد وجهيهما لكن قصتهما ما زالت فى العلبة، أو فى علبتين تقاسمتا القصة التى توقفت هناك فى كرم الزيتون منذ عقود طويلة.
***
فى شنطتى مفتاح بيتى القديم وهو شاهد على سنوات أمضيتها فى مدينة تبنتنى فأحببتها، هو مفتاح بيت اجتمع فيه أصدقاء سوف أحمل معى أصواتهم وصورهم حيث أذهب. فى شنطتى أيضا مفاتيح لبيوت أصدقاء وأقارب فتحوا لى قلوبهم قبل بيوتهم فأشعرونى أن مرحلتى الانتقالية مستقرة، لا داعى أن أقلق فيها من عدم الألفة والبعد عن الأحباء. بيوت أقاربى أعطتنى أمانا كمن تمسك أمه بيده فى لحظة تخبط فيعود العالم إلى رتابته. مفتاح بيت صديقتى يحمل دعوة مفتوحة للزيارة لم أستخدمها فأنا لم أحتج البيت لكنى أعرف فى داخلى أن ثمة مأوى متاحا لى فى أى وقت. أما المفتاح الأخير فهو لبيت كبير أرى نفسى فيه وأنا طفلة، أجلس مع أمى وأبى وهما يتناقشان حول أمور لم أفهمها وقتها ثم بدت لى واضحة اليوم. فهما، كما أى زوج فى سنهما، ينظران إلى المستقبل فى محاولة لتخطيط حياتهما، غير آبهين فى لحظتها بطفلة تحوم حولهما دون أن تفهم الحديث. لم يعرفا طبعا حينها أن ثمة حدودا لإمكانية التنبؤ والتخطيط والرتابة فى الحياة، بل إن للحياة قدرة عجيبة على قلب الأمور رأسا على عقب بطريقة لا تنفع معها أى خطط مسبقة.
***
القلوب هى مفاتيح البيوت، أن تحمل معك مفتاحا يعنى أنك غلفت قصصا وضحكات وخبأتها فى زاوية فى قلبك حتى تشعر أنك جاهز لفتحها من جديد فى مكان آخر. أن تفتح قلبك قبل بيتك لشخص يمر بتغيير يعنى أن يشعر الشخص أن ثمة ثوابت يتمسك بها وسط الزوبعة. هكذا أشعر أنا حين أمسك مفتاحا داخل الشنطة دون أن يعرف من حولى ماذا أفعل. قد تكون لحظات قصيرة أشعر فيها بدوار فى رأسى فأسارع فى البحث عن أى من المفاتيح الأربعة فى شنطتى وأستمد منه الثبات. أغلق كفى عليه بشدة أفقد فيها الشعور بأصابعى فتبدأ السكينة بالتسلسل إلى قلبى. أفلت المفتاح وأبقيه فى الشنطة فقد أحتاجه فى نوبة قادمة من الشعور بالبعد عن ما أحببته وألفته. هكذا إذا أحمل معى أينما ذهبت مفاتيح
لقلوب أصدقاء وأقارب، أدخلونى إلى القلوب قبل البيوت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved