المرافئ الآمنة للثروات

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 4 سبتمبر 2019 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

فى كتاب «أرض المال، للكاتب الصحفى أولفر بولوخ، يسرد المؤلف تفاصيل المئات من القصص والأحداث التى تجرى فى عالم الثراء والأثرياء. الجانب الذى يهمنا هو ما يذكره عن الطرق والأساليب والحيل التى يستعملها أصحاب الثروات الطائلة لإخفاء ثرواتهم فى بلدان آمنة، حيث لا يطرح أحد أى سؤال عن مصدر المال ولا مالكه الحقيقى ولا أية تفاصيل عن مآله المستقبلى. فى هذه البلدان، المسماة بجنات المال الآمنة، تسود السرية التامة بشأن الأموال التى تحول إليها، والبنوك التى ستوضع فيها، والشركات الوهمية التى سترعى امتلاكها، والفوائد التى ستربحها، والعقارات والأسهم والصفقات التى ستكون تلك الأموال أداة من أدوات شرائها أو تنفيذها.
يتحدث الكتاب عن ثروة قدرت فى سنة 2010 بأنها تراوحت ما بين عشرين وثلاثين تريليون من الدولارات. الأمر الصادم المرعب هو أن الكاتب يقدر النسبة المئوية من ثروات الأغنياء الأمريكيين التى تخرج إلى خارج أمريكا بما فيها تلك الأماكن السرية الآمنة بأربعة فى المائة من الثروة الأمريكية الهائلة، لترتفع النسبة إلى عشرة فى المائة من ثروة الأوروبيين، ثم لتصعد النسبة إلى ثلاثين فى المائة من ثروة الإفريقيين، ثم لتصل إلى نسبة صادمة تقدر بسبع وخمسين فى المائة من ثروة أغنياء منطقة الخليج.
لا يذكر المؤلف نسب ثروات أغنياء المناطق العربية الأخرى، لكن الإنسان يستطيع أن يخمن بأنها ستكون هى الأخرى من أعلى النسب، خصوصا وأن أغلبها تتحكم فى أنظمتها السياسية الحاكمة أقليات باسم الحزب القائد الطليعى، أو الجيش الوطنى المنقذ، أو الجماعة المذهبية الطائفية التى تدعى تعرضها لمظالم تاريخية، أو العائلة المنتمية لهذا النسل الدينى أو ذاك البطل التاريخى، أو الجماعة السياسية المشمولة بحماية القوى الاستعمارية الخارجية.
تحت هكذا أنظمة حكم لا تملك الشرعية الديمقراطية تغيب مؤسسات الرقابة والمحاسبة السياسية والقانونية، وتترسخ الذمم المالية الفاسدة، التى تسهل نهب الثروات العامة ونقل جزء منها بشتى الصور إلى الخارج لتصل إلى المرافئ المالية الآمنة الشهيرة، حيث تتركز صناعة استلام تلك الثروة بسرية تامة، تم تقديم الاقتراحات بشأن طرق استثمارها أو صرفها على حياة البذخ، بعيدا عن أعين المتطفلين من المراقبين الرسميين أو جهات جمع الضرائب.
المهزلة تتمثل فى أن بلدان العالم التى تسمح أوضاعها السياسية والإدارية بنهب الأموال أو التهرب من دفع الضرائب، ومن ثم تهريب تلك الثروة الوطنية إلى تلك المرافئ لاستثمارها أو صرفها فى الخارج، لا تخجل سلطاتها من الشكوى المضللة بشأن قلة الاستثمارات التى تأتى إليها من الخارج، وبالتالى محدودية نموها الاقتصادى، الأمر الذى يقود إلى ادعاء آخر من أن ليس لديها المداخيل الكافية لصرفها على الخدمات العامة الأساسية الضرورية مثل التعليم والصحة والإسكان والمعونات الاجتماعية والبطالة والتقاعد.

ويتكفل الإعلام الحكومى أو الإعلام الخاص «الزبونى» أو أصحاب الأقلام المدفوعة الثمن لإقناع المواطنين بصدق تلك الادعاءات وتبرير تخلى الحكومات عن مسئولياتها الخدمية العامة، خصوصا وأن الأيديولوجية النيوليبرالية العولمية تبارك ذلك.
هنا تكتب قصائد المقارنة مع دول أخرى تعيش أوضاعا أسوأ أو تعيش فى مصيدة حروب أهلية مدمرة فرضها الاستعمار وحاكتها مخابراته، كما هو الحال فى بعض بلاد العرب.

وتصل المأساة الكوميدية إلى قمتها عندما تقوم جهات التبرير والكذب تلك بالطلب من المواطنين أن يحمدوا الله على أنه أنعم عليهم فى هذه الفترة العصيبة بوجود قائد تاريخى ملهم فذ أو أب عائلة محب لأولاده سيكون قادرا على إخراجهم من الوضع المتردى الذى هم فيه فى المستقبل القريب، وما عليهم إلا الصبر والانتظار.

إنها نفس المأساة الكوميدية التى كان يمثلها فى الماضى ملاك العبيد الذين كانو يطالبونهم بقبول مبدأ وعار عبوديتهم فى سبيل حصولهم مجانا على الطعام والمسكن والأمان والرفق وعدم القسوة فى التعامل معهم من قبل مالكهم وسيدهم.

أما الحديث عن تبديل أو إصلاح النظام السياسى والنظام الاقتصادى ونظام العلاقات الاجتماعية الخالية من العدالة والمساواة فى المواطنة فإنه يوصف بأنه حديث لا يجلب إلا الخلافات والصراعات والإرهاب وعدم الاستقرار. العبيد يجب ألا يثوروا على مبدأ وعار عبوديتهم، وإنما يجب أن يكتفوا بالمطالبة بتحسين أوضاعهم والحصول على أكبر قدر من الصدقات وفتات الأعمال الخيرية التى يوزعها الأقوياء والأغنياء، شرط ألا تمس الأسس التى قام عليها النظام الذى سمح لهم بتكديس الثروات.
هناك من يقول بأن النظام العولمى المالى الحالى سمح باتساع وانتشار تلك الظاهرة، التى فى محصلتها تخدم البلدان الرأسمالية الغنية ومدن مرافئ الأمان مثل جيرسى فى أوروبا ونيفيس فى البهاماس. لكن اللوم الأكبر يقع على الفساد المالى والقانونى والسياسى الذى أصبح وباء العصر الذى نعيش. فالمشكلة ليست فقط فى وجود دول عالم ثالث تسمح أنظمتها بنهب الثروات وإخراجها، وإنما هى أيضا فى وجود دول غنية تسمح بانتقال تلك الثروات إليها، حتى ولو كانت عبر وسائل غامضة مليئة بالأسرار والتعقيدات. إنه طمع السوق الرأسمالية الذى لا يشبع.
فالدول الرأسمالية الكبرى التى وضعت فى مدينة بريتون وودز، عام 1944، قواعد تضبط انتقال الرأسمال بين دول العالم من أجل الاستقرار المالى العالمى، هى نفسها التى تتخلى عن تلك الضوابط، تماما كما تفعل أمريكا الآن بالنظام النيوليبرالى الرأسمالى الذى وضعته منذ أربعة عقود، إذ تدوس عليه من أجل مصالحها الوطنية الضيقة.

السؤال الذى يهمنا هو: ما هى الأسس والأنظمة والاحتياطات التى يجب أن تناضل المجتمعات العربية من أجل وجودها لحماية ثروات تلك المجتمعات؟ إنه سؤال يستحق الإجابة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved