وداعا جورباتشوف.. الإصلاحى الذى لم يعرف كيف يحقق أهدافه

عزت سعد
عزت سعد

آخر تحديث: الأحد 4 سبتمبر 2022 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

فى نهاية أغسطس الماضى، أعلن عن وفاة ميخائيل جورباتشوف آخر القادة السوفييت وصاحب البروسترويكا (إعادة الهيكلة) والجلاسنوست (الشفافية)، عن عمر ناهز الـ91 عاما، فى المستشفى الرئاسى بموسكو بعد صراع طويل مع المرض. وقد نعاه الرئيس بايدن فى بيان للبيت الأبيض أشار إلى أنه «كان قائدا ساهم فى جعل العالم أكثر أمانا». وبالنسبة للرئيس بوتين، أعلن المتحدث باسم الرئاسة أن ارتباطات مسبقة ستحول دون مشاركته فى الجنازة، وأنه ألقى نظره وداعية على جثمان الراحل وقدم العزاء لأسرته، ونكست ألمانيا الأعلام بالتزامن مع مراسم التشييع اعترافا بفضل جورباتشوف فى تحقيق الوحدة، فيما انفرد فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر بكونه الوحيد الذى حضر الجنازة من قادة أوروبا.
وتظل سياسات جورباتشوف الإصلاحية محل جدل كبير بين المؤرخين والكتاب، خاصة فيما يتعلق بتداعياتها على الاتحاد السوفيتى السابق حيث يحمله البعض مسئولية انهياره، بينما يقدر البعض الآخر أن هذا الانهيار كان مسألة وقت فقط، وأن سياسات جورباتشوف عجلت بسقوطه. ومع ذلك هناك اتفاق عام حول حقيقة أن الراحل، رغم أفكاره الإصلاحية، لم يكن يعرف الطريق إلى تحقيق أهدافه، أو كيفية وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ. ونتيجة لذلك، اختطفت القوى الاجتماعية والدولية إصلاحاته فى ديناميكيات عملت، ليس من أجل الإصلاح ولكن من أجل تدمير المجتمع والدولة السوفيتيين.
وُينقل عن بعض من كتبوا عن سيرة جورباتشوف، أنه فى عقد التسعينيات، كان بصدد زيارة اليونان، وسأل الرئيس المحافظ آنذاك كارامانليس عن الهدية التى يرغب فى إحضارها له من روسيا. فإجاب الرئيس اليونانى: «أعيدوا لنا روسيا». وفى هذا السياق عادة ما يتم استدعاء عبارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أمام مؤتمر ميونخ لسياسات الأمن عام 2007 عندما ذكر أن «تفكك الاتحاد السوفيتى كان الكارثة الجيوسياسية الأكبر فى القرن العشرين». ويعلق البعض بأنها لم تكن كارثة فقط بالنسبة للشعوب السوفيتية، بل وأيضا للبشرية جمعاء، «حيث شعرت الرأسمالية الغربية والإمبريالية بزوال أى عوائق أمام برنامجها الوحشى، وجرى تدمير يوغسلافيا ثم اجتياح أفغانستان والعراق».
• • •
والمتأمل للأحداث التى جرت خلال السنوات الأخيرة من حكم جورباتشوف (1985 – 1991)، لابد أن يصل إلى نتيجة مفادها أن ما شهدته علاقات روسيا بالغرب من تدهور وانعدام للثقة، وصولا إلى الحرب الجارية فى أوكرانيا منذ فبراير الماضى، تعود جذورها بالتحديد إلى تلك السنوات وعقد التسعينيات بصفة عامة الذى حكم فيه يلتسين روسيا بعد أن نجح فى الإطاحة بجورباتشوف. وعلى حين تم الترحيب بعقد التسعينيات فى الغرب باعتباره فترة من السلام والازدهار والتجديد بعد الحرب الباردة، يتذكر الروس العاديون هذه الفترة باعتبارها مرحلة فوضى وانهيار سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى. فقد كانت صدمة التفكك السريع، مقترنة بالإدراك الواسع النطاق داخل مؤسسة الأمن القومى الروسية بأن التقارب بين موسكو والغرب فى تلك الفترة أدى إلى تراجع وتقلص الدور الروسى فى العالم، وكان ذلك سببا كافيا وقويا لسعى موسكو فيما بعد– منذ تولى بوتين ــ للاعتراف بها كقوة رئيسية معارضة للعالم أحادى القطب بقيادة الولايات المتحدة.
وقد كشفت الأدلة التاريخية عن حقيقة أن تركيز الولايات المتحدة وأولوياتها خلال سنوات جورباتشوف الأخيرة، كانت مصير الترسانة النووية السوفيتية الضخمة (30 ألف رأس نووى)، وتمدد حلف شمال الأطلسى (ناتو) شرقا للحفاظ على الهيمنة الأمريكية على الأمن فى القارة الأوروبية. ووفقا للوثائق الأمريكية والبريطانية، فإنه بحلول 24 نوفمبر 1989 ــ أى بعد أسبوعين فقط من السقوط غير المتوقع لجدار برلين ــ أدرك جورج بوش الأب أن الإطاحة بحكومات دول وسط وشرق أوروبا، الواحدة تلو الأخرى، توفر بيئة مواتية للدفع قدما بدور جديد للحلف بقيادة أمريكا. والحال كذلك، تشاور بوش مع رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر ــ التى كانت الأشد حماسا وإعجابا بجورباتشوف وبرنامجه الإصلاحى ــ حول ما يمكن عمله إذا ما أرادت تلك الدول الخروج من حلف وارسو، وهل يجب الإبقاء على حلف الناتو فى هذه الحالة؟ وردت تاتشر بما أذهل بوش، مؤيدة «الحفاظ على حلف وارسو». فقد رأت فى ذلك مخرجا لحفظ ماء الوجه للزعيم السوفيتى وسط ذُل انهيار إمبراطوريته. كذلك نصحت تاتشر بوش «بعدم الظهور علنا فى هذه الأيام لدعم استقلال جمهوريات البلطيق، لأن الوقت ليس مناسبا للتشكيك فى قدسية الحدود الأوروبية». غير أن بوش لم يكن مقتنعا بذلك، موضحا أن الغرب لا يستطيع تكليف الدول بالبقاء فى حلفٍ رغما عنها.
وفى عام 1990، كان جورباتشوف لايزال يتمتع بنفوذ، حيث كان لموسكو مئات الألاف من الجنود فى المانيا الشرقية والحق القانونى فى إبقائهم هناك. ولم يكن ممكنا توحيد الألمانيتين بدون إذن جورباتشوف، الذى كان لديه مصدر آخر للقوة تمثل فى الرأى العام الداعم له. وفى هذا السياق، اقترح وزير خارجية المانيا الغربية آنذاك هانز ديتريش جنشر إدماج حلفى وارسو والناتو فى «هيكل واحد للأمن الجماعى المشترك» فى أوروبا، وهو ما رفضه بوش أيضا، «الذى لم يكن يرغب بالتأكيد فى أن يختفى الناتو أو أن يختفى معه الدور القيادى للولايات المتحدة فى الأمن الأوروبى»، وذلك وفقا لكاتب أمريكى.
ووفقا لمحللى تلك الفترة، كان بوسع جورباتشوف أن يطلب من قادة المانيا الغربية سحب الأسلحة النووية – التى كانت الأعلى تركيزا لكل ميل مربع فى أى مكان على الأرض كأداة ردع فى يد الناتو لأى غزو سوفيتى محتمل ــ مقابل سماحه بتوحيد الألمانيتين، وهو ما كان سيرحب به الألمان، خاصة وأن عام 1990 كان عام انتخابات، رفع فيها المستشار هلموت كول إعادة التوحيد والقضية النووية على رأس برنامجه الانتخابى. وفى غضون ذلك طرح جيمس بيكر وزير الخارجية صفقة على جورباتشوف بأن يسمح الأخير بالمضى قدما فى إعادة توحيد الألمانيتين مقابل موافقة واشنطن على أن ولاية الناتو «لن تمتد بوصة واحدة شرقا من وضعها الحالى». وسرعان ما تخلى بيكر عن عرضه هذا، الذى لم يكن ضمن تفضيلات بوش. ومن خلال وعود بتقليص البنية الأساسية لحلف الناتو فى شرق المانيا، على غرار تجربة النرويج العضو الأصلى الوحيد فى الحلف الذى يتقاسم حدودا مع الاتحاد السوفيتى، بجانب اللعب على الانهيار الاقتصادى لموسكو، نجح بوش فى تحويل انتباه جورباتشوف بعيدا عن إزالة الأسلحة النووية من المانيا الغربية نحو الإغراءات الاقتصادية للسماح بإعادة التوحيد. ودخلت المانيا بملياراتها، وبأشكال مختلفة من الدعم، على الخط. وفى نهاية المطاف سمح جورباتشوف بإعادة التوحيد والانضمام إلى الحلف بالفعل فى 3 أكتوبر 1991، مما سمح للحلف بالتوسع عبر خط المواجهة القديم فى الحرب الباردة.
ولم يمض أكثر من عام، وفى 11 أكتوبر 1991، انتقل بوش إلى هدف أكثر طموحا، عندما استطلع رأى مانفريد ورنر أمين عام الحلف آنذاك فى إمكانية انضمام دول البلطيق الثلاث للحلف، الأمر الذى رد عليه ورنر بالقول: «نعم يجب الترحيب بها إذا تقدمت بطلبات للانضمام». والطريف أنه فى زيارة له لموسكو فى نوفمبر 1991، استفسر بيكر من أحد مستشارى جورباتشوف (الكسندر ياكوفليف) عن ما اذا كان انفصال أوكرانيا من شأنه أن يثير مقاومة روسية عنيفة، الأمر الذى شكك فيه ياكوفليف موضحا أن هناك 12 مليون روسى فى أوكرانيا مع «العديد منهم فى زيجات مختلطة». وكان بوش قد زار كييف فى أول أغسطس 1991، وقبل أسابيع فقط من تبنى البرلمان الأوكرانى قانونا يعلن استقلال البلاد، حيث ألقى خطابا رفض فيه حق البلاد فى تقرير المصير، محذرا من «القومية الانتحارية القائمة الكراهية العرقية»، وهو ما أثار حفيظة القوميين الأوكران، مما دفع بيكر لاحقا إلى محاولة التعرف على رد الفعل المحتمل للروس على استقلال أوكرانيا.
• • •
هكذا وجد جورباتشوف نفسه وحيدا، وباتت اتصالات واشنطن بموسكو قاصرة على بوريس يلتسين، الذى كان مشغولا بانتزاع السلطة من خصمه جورباتشوف، معلنا أنه، ورئيسى بيلاروس وأوكرانيا، يفككون الاتحاد السوفيتى. وفى خضم كل ذلك، زار جيمس بيكر موسكو فى 15 ديسمبر 1991، قبل أسبوع واحد من اختفاء الاتحاد السوفيتى، للتأكد من هوية من سيحتفظ بسلطة الإذن بإطلاق الأسلحة النووية. ويفسر محللو تلك الفترة انفتاح يلتسين على بيكر بأنه كان مناورة لكسب دعم الولايات المتحدة له فى صراعه مع جورباتشوف، وأيضا لتأمين دعم مالى أمريكى، لكنه كان أيضا– فى تقدير محللين أمريكيينــ علامة على أنه يريد بداية مرحلة جديدة بين موسكو والغرب، تتسم بالانفتاح والثقة، غير أنه بحلول نهاية التسعينيات، كانت تلك الثقة قد اختفت إلى حد كبير، خاصة مع التدخل العسكرى للحلف فى كوسوفو فى مارس 1999، والذى عارضته موسكو بشدة، حيث شكل هذا التاريخ نقطة تحول فى العلاقات الأمريكية الروسية. وفى وقت لاحق من ذلك العام تجدد القتال فى الشيشان الأمر الذى انتقدته الولايات المتحدة بشدة، مما دعا يلتسين إلى الشكوى للصحفيين من أن «كلينتون سمح لنفسه بالضغط على روسيا لأنه نسى لثانية أن روسيا تملك ترسانة كاملة من الأسلحة النووية».
وكما لاحظ الرئيس بوتين فى وقت لاحق: «ساعدت روسيا نفسها فى انهيار الاتحاد السوفيتى». وفى رأيه كان يتعين على موسكو أن تنخرط فيما جرى، سواء داخل الاتحاد أو فى الخارج، بدلا من الوقوف جانبا فى الوقت الذى قفزت فيه دول الكتلة السوفيتية السابقة من السفينة للانضمام للغرب، مضيفا «كنا سنتجنب الكثير من المشكلات لو لم يخرج السوفييت بهذه السرعة العشوائية من أوروبا الشرقية».

مدير المجلس المصرى للشئون الخارجية


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved