النتائج الكارثية لموت السياسة فى مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 11:42 ص بتوقيت القاهرة

 هل يعنى قبول حزب الوفد، ومعه حزبا التجمع والديمقراطى الناصرى فضلا عن جماعة الإخوان المسلمين خوض انتخابات مجلس الشعب القادمة، ورفضها دعوة المقاطعة التى دعت إليها الجمعية المصرية للتغيير وحركات المجتمع المدنى الأخرى، رغم الرفض المهذب من جانب الحزب الوطنى الحاكم لمطالب ضمانات الانتخابات التى قدمتها أحزاب الائتلاف ــ عودة السياسة إلى الحياة العامة فى مصر؟ هل سيعنى ذلك تخلى النظام السياسى فى مصر عن تقاليده شبه العسكرية من التزام بالسرية، وشغف بالمفاجأة، وتقديس للتراتبية، واستهانة بالخصوم فى الداخل، أم أن قبول هذه الأحزاب والقوى المشاركة فى انتخابات مجلس الشعب هو إذعان لواقع صعب لا تملك تغييره، وأنه إذا كانت الأسابيع المقبلة ستشهد بعض طقوس السياسة من حملات انتخابية وتنافس للفوز بالترشيح وبأصوات الناخبين هو مجرد مظاهر خادعة فى مسرحية فصلها الختامى معروف مقدما، وأن الأمر هو أقرب إلى الكوميديا، ولكنها كوميديا سوداء، لأن مصر ــ نظاما سياسيا ومجتمعا ــ تدفع ثمن غياب السياسة بمعناها الصحيح.

شروط السياسة لا تتوافر فى مصر

إن شروط السياسة بالمعنى الصحيح لا تتوافر فى مصر. السياسة تعنى التعددية فى الأطراف وفى المصالح وفى المواقف، ولكنها تعددية تعكس واقع المجتمع وليست هى التعددية المصطنعة أو المقيدة بهوى أحد أطرافها، وأطراف العملية السياسية يدركون أن لكل منهم مصالحه المشروعة، ولذلك تتعدد المواقف بحسب تعدد المصالح وتعدد الرؤى حول كيفية الارتقاء بهذه المصالح، ومادام كل الأطراف تقبل بالاحتكام للحوار السلمى وحده مع العودة للناخبين للتوفيق بين هذه المصالح والرؤى المتنوعة فليس هناك قيد على وجود أى منها أو على أسلوبه فى التعبير عن مصالحه. وفضلا على ذلك لا يدعى أى منها أنه يحتكر الحقيقة أو الرأى الصائب، ومن ثم يكون كل منهم على استعداد للتسليم بأن حجج طرف آخر قد يكون لها بعض الوجاهة، ولذلك يمكن قبولها، ولهذا يقبل هؤلاء الأطراف الوصول إلى حلول توفيقية لا تحقق لأى منها كل ما يطلبه، ولكنها تحقق لكل منها بعض ما يطلبه. ويكون الوصول إلى مثل هذه الحلول التوفيقية من خلال الحوار الذى قد يكون مباشرا وجها لوجه أو من خلال مؤسسات المجتمع المدنى بما فى ذلك قنوات الإعلام المختلفة. كما أن السياسة بالمعنى الصحيح لا تعرف احتكار طرف واحد لما يمكن تسميته بجدول أعمالها، فقضايا الحوار العام مفتوحة، يضيف كل طرف إليها ما يراه مهما، وتتفاعل معه الأطراف الأخرى بتبنى مواقف حول ما يطرحه. وعندما يحتدم الخلاف بين هذه الأطراف، فإن اللجوء إلى المواطنين فى انتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة للجميع هو سبيل الحسم.

وقد رأينا أمثلة على هذا النوع من السياسة فى المفاوضات التى انتهت بتشكيل الحكومة البريطانية، والتى تبادل فيها حزبا المحافظين والأحرار الديمقراطيين قبول كل منهما بعض مطالب الطرف الآخر، كما شاهدناها فى الولايات المتحدة الأمريكية فى النقاش داخل الكونجرس الأمريكى سواء على برنامج التحفيز الاقتصادى أو برنامج الرعاية الصحية اللذين اقترحهما الرئيس أوباما، والذى قبل مقترحات قدمها الجمهوريون، حتى وإن كان بعض أعضاء حزبه من الديمقراطيين قد لاموه على ذلك حيث كان يملك الأغلبية التى كانت تمكنه نظريا من تمرير البرنامجين بدون التعديلات التى تمسك بها الجمهوريون، ولكن هذه هى طبيعة الحياة السياسية الراقية. والتى توفر سبيلا لتحقيق قدر من التوافق الوطنى على السياسات، وتفتح الباب لطرح جميع القضايا المهمة لتفاعل أطرافها مع المواطنين، وتجنب الدولة مخاطر الانزلاق إلى صراع دموى عندما لا تكون هناك وسيلة سلمية لحسم خلافات السياسة.

أما عندنا فى مصر فلا يتوافر أى من هذه الشروط. التعددية التى يجب أن تعكس واقع القوى السياسة فى المجتمع مقيدة بشروط تستبعد أهم هذه القوى والتى يشير إليها الإعلام الرسمى بأنها «محظورة»، وهى ليست الوحيدة المستبعدة. والاعتراف بأن لكل أطراف العملية السياسة مصالح مشروعة هو أمر نظرى تماما لأن ذلك سيتبعه التسليم ببعض هذه المصالح، وهو ما لا نرى له ظلا من الواقع على ضوء رفض قيادات الحزب الوطنى كل ما يأتى من المعارضة أو حركات المجتمع المدنى وكثيرا من القضايا التى تشغل المواطنين لا تجد حظها من اهتمام الحزب الحاكم. كما أن الحوار المباشر بين أطراف العملية السياسية مفتقد، ولا أظن أن القارئ ينخدع بتلك اللقاءات المعقمة لقيادات الحزب الوطنى سواء فى العاصمة أو الأقاليم، والتى يجرى انتقاء المشاركين فيها بحيث يستبعد كل من يمكن أن تكون له وجهة نظر متميزة وليست حتى بالضرورة مستقلة أو معارضة.

النتائج المخيفة لغياب السياسة

ولعلنا نشهد الآن بعض نتائج هذا الغياب المروع للسياسة فى مصر، أولها هو انصراف المواطنين عن العملية السياسية برمتها وعن السياسيين. البيانات الرسمية تشير إلى أن المشاركة فى الانتخابات التشريعية والرئاسية لا تكاد تصل إلى ربع المواطنين المسجلين على قوائم الناخبين، وهى بكل تأكيد أقل من ذلك بكثير لأن قوائم الناخبين تضم من ماتوا ومن غادروا الوطن، كما أن بيانات المشاركين لا تخلو كذلك من «نسبة التضخم المعتادة» فى مثل هذه التقارير، والمسجلون على قوائم الناخبين لا يشملون كل المواطنين فى سن الانتخاب. والمواطنون منصرفون كذلك عن عضوية الأحزاب السياسية التى هزلت كثيرا حيث لا يرى المواطنون جدوى من وجودها، فليس فى مقدور أحزاب المعارضة الوصول إلى السلطة أو التأثير فى السياسات. وتحل قيادات أخرى دينية أو قبلية محل القيادات الحزبية فى التعبير عن اهتمامات ومشاغل المواطنين وفى رأى علماء السياسة فإن انصراف المواطنين على هذا النحو عن المشاركة السياسية لهو نذير بفقدان النظام السياسى الشرعية. وفى مثل هذه الحالات يستند بقاء النظام السياسى فقط على سيطرته على أجهزة الأمن، التى يصبح بدوره أسيرا لها.

النتيجة الثانية هى تفاقم مشاكل الوطن بدون حل لأن من بيده السلطة لا يسمع إلا صوته وحده ولا يلقى بالا لما يصله من تحذيرات من النخبة المستقلة أو المواطنين، ولأنه يتعامل مع كل الأطراف بالاعتقاد الجازم أنه وحده الذى يملك الحقيقة والتحليل الصحيح. وهكذا يتصاعد التوتر الطائفى من منازعات محدودة تتعلق بأفراد إلى مواجهة بين القيادات المحلية وممثلى الكنيسة فى الأقاليم إلى تبادل للاتهامات والإهانات على مستوى الوطن ككل، وقيادات الدولة لا ترى ولا تسمع ولا تنطق، وإن فعلت فعلى نحو لا يتفق إطلاقا وخطورة ما يجرى وما قد يحدث.

ولا تتوقف هذه الآثار على ما سيحدث لمن فى السلطة أو لأطراف المنازعات السياسية، ولكن جملة المواطنين يمكن أن يعانوا من الآثار المدمرة لسلطة منفصلة عن المجتمع. إن أحداث هجوم من يسمون بالألتراس على المبانى والسيارات والمواطنين فى الزمالك والمهندسين لهى نذير خطير بما يمكن أن يحدث عندما ينفجر برميل السخط فى نفوس الشباب المحبط الذى لا يجد عملا لائقا ولا دخلا كريما، فينتهز أى مناسبة لا علاقة لها لا بالسياسة ولا بالسياسيين، لتفريغ شحنة السخط هذه. لقد كانت تلك الأحداث مجرد صورة مصغرة لما يمكن أن يحدث على نطاق واسع بطول الوطن وعرضه عندما يستمر نمط السياسة الوهمى الذى يمثل بناء فوقيا مصطنعا لا صلة له بما يحتدم فى قاع المجتمع من أزمات، لأن قيادات هذا النظام قررت صم الآذان إلا عن صدى صوتها، مهما كان هدير السخط من حولها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved