الحياة برائحة الكافور

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 4 أكتوبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

نادرا ما تجد الحياة متلاصقة بالموت على هذه الشاكلة.. نادرا ما تجد الفرح والموسيقى وكل مؤشرات الحياة تنبض هنا فوق هذه الأرض تستريح فوق القبور.. هو مربع ينقش تفاصيل لحيوات فى حضنه وعلى أطرافه تستلقى المقابر واحدة ملتصقة بالأخرى لم تعد هناك مساحة للأحياء فكيف الأموات؟!

 

هو مربع تكتظ فيه المساكن، تلتصق البيوت بل هى أشباه بيوت وأشباه نوافذ وأشباه غرف.. تبقى تراكمات الزبالة هى العنوان الأكبر.. لا خدمات هنا فقد اختفت تلك من المناطق المرفهة نسبيا فما بالك بحى كهذا. رغم أنه محاط بالأضرحة هنا الإمام الشافعى وعلى بعد مسافة بسيطة ترقد السيدة نفيسة وهكذا.. يقترب الفقراء من الأضرحة يلتصقون بها ربما أو علّها تخفف من معاناتهم..

 

شوارع ضيقة وأعداد من البشر، من الواضح جدا ان البطالة مرتفعة لا تحتاج إلى مراكز للإحصاء لتخبرك بنسبتهم، فهاهم قد افترشوا اشباه الأرصفة وصفوا «الشيش»، وراحوا يرتشفون الشاى والقهوة والينسون محاولة لينسوا انهم يسكنون فى حضن الموت.. كثرة مدن الموت لم تعد هى ظاهرة قاهرية، فهناك مدن للموتى تحولت إلى مساكن يعيش بها آلاف بل ملايين من البشر.. يتوالدون ويفرحون ويزفون بناتهم وأولادهم ويقيمون الأفراح كلما استطاعوا سبيلا! ولكن تبقى الحياة الملاصقة للموت موضعا للتساؤل.

 

حدثنا ذاك الجالس فى غرفة شديدة الصغر وقبو أصغر أكلت نصفه الرطوبة وهى الأخرى تنضم إلى الموت والزبالة لتشكل أحد أعداء سكان هذا المربع.. على الجهة الأخرى من تلك الغرفة غرفة ثانية هى قاعة اجتماعات تلك الجمعية.. كم هى بعيدة عن ما نعرفه من مسميات «هيئات المجتمع المدنى» العربية والأجنبية منها! وكما هو حال سكان هذا المربع والقبور المحيطة هو الآخر قسم غرفته إلى مطبخ صغير ومرافق أخرى تفصلها عن الغرفة ستائر ربما استعارها من منزله.

 

غواية الفقر والموت ربما؟! تبقى هذه الجمعية هى الوحيدة التى تحارب تلك الغواية وأفاتها.. فهنا فى المربع نفسه وما حواليه من سكان للمقابر لا مدارس ولا مرافق صحية ولا خدمات لرفع القمامة أو حتى لحفظ الأمن.. هم، أى سكان هذه المقابر خارج الزمن.. وخارج المدنية وخارج حتى التاريخ ربما.. يتذكرونهم دوما عندما تبدأ «غزوات الصناديق» يرتفع ثمنهم فى تلك اللحظات فقط! يصبح لصوتهم قيمة فهم كتلة بشرية لا يستهان بها.. كما يتذكرهم الإعلام عند زيارة الشخصيات «المهمة» فتزدحم عدسات المصورين، ويزداد الضجيج القادم إلى مدن الموت والحياة.. تدب حياة أخرى فى حياتهم.. ترتفع ابتساماتهم ويزداد فرحهم.. «ها هو الخير قادم»، ويبشر الآباء ابنائهم بالرحيل من تلك المدن القاتلة.. تقول الأم لأبنائها الذين يتقاسمون اللقمة بأيام الأسبوع لكل طفل منهم يوم للغداء ها نحن راحلون بعيدا عن جدران أكلتها الرطوبة حتى غزت أجسادهم الصغيرة.. تزداد الابتسامات اتساعا مع قدوم التليفزيونات ومقدمى البرامج.. هم أيضا موسميون فقط.. ثم ما تلبث وتعود للأيام رتابتها وتطير الوعود محلقة أو تدفن بالقرب من بقايا آدمية!

 

كل خير هنا مرتبط بموسم غير أن مواسمها كلها لا يجمعها سوى الكثير من الموت اليومى، الذى يطاردهم بفعل انتشار الأمراض والاوبئة.. وهناك أمراض أخرى يقول ذاك الجالس فى غرفته الصغيرة يجمع ما يستطيع من قدره ليخلص أهالى المربع وساكنى المقابر من نهاية تتنوع أشكالها.. يؤكد أن عدد الأطفال الذين يخطفون فى ازدياد، ويكمل هى عصابات تعرف أن هذه المنطقة منزوعة الأمن والأمان، ولذلك تخصصت فى خطف أطفال المنطقة لأغراض تتفاوت من تشغيلهم فى التسول وغيره أو بيع أعضائهم.. وقبل ان يكمل توصيفاته لأمراض المنطقة تمر فتاة حاملة شنطة مدرسة.. إذن ما زال البعض يقاوم بطرقه المختلفة عبر كسر قيد الجهل أو حلقته، التى تطارد هؤلاء الراقدين فى حضن القبور!

 

بين زقاق وآخر تتراءى الوجوه البائسة امرأة هنا تسكن أحد المقابر مع ابنتها المصابة بشكل من أشكال الإعاقة.. وعائلة أخرى تكتظ فى الغرف المحيطة بـ«حوش» المقبرة أجساد صغيرة ترص على الأرض أو فوق قطعة من الخشب القديم تحولت بفعل الحاجة إلى سرير.. هى نفسها غرفة نومهم ودراستهم وطعامهم وتسليتهم.. وعلى الجانب الآخر مطبخهم فى الحوش تفصله ستارة بالية عن الحمام!

 

وعند البحث عن بعض مظاهر الفرح جلست نسوة وبعض الرجال يفترشون الأرض الجرداء يحضرون لحفلة زفاف ابنتهم فى ذلك المساء.. تزف الابنة على ابن عمها ويعودون ليكملوا فرحهم فى حضن الموت.. هكذا هو الفرح المغمس بطعم الموت.. هكذا هم سكان ذاك المربع حيث لا مكان يبعدهم عن الموت سوى اللجوء للأضرحة وجمعية يتيمة تبشرهم بأن هناك حياة خارج مدنهم المسكونة برائحة الكافور! 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved