طال الفراق

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 4 أكتوبر 2015 - 6:35 ص بتوقيت القاهرة

حذاء صغير اختلط بحمرة الطمى، خلفته قدم صغيرة كانت تحاول الهرب مع الأهل من جحيم الداخل، على الحدود التركية السورية. لا يمكن أن ينسى الأطفال مثل هذه اللحظات، حتى لو استعصى عليهم فهم ما يجرى وقتها. قد تشغلهم فى ساعتها فكرة فقدان الحذاء وكيف سيمشون حفاة خارج البيت ويتعرضون لغضب الأم، لا يفهمون إلا بعد سنوات أنهم بفقدان الحذاء ضاع منهم وطن وتحولوا إلى لاجئين يندفعون فى المجهول بحثا عن مأوى. لحظة فقدان الحذاء التى سيرويها بعد حين هذا الطفل السورى رواها من قبل مثقف فلسطينى أقام فى القاهرة لفترة طويلة، وظلت حاضرة بقوة فى ذهنه، رغم مرور دهر على خروجه من يافا إلى بيروت. أيقظه الأهل ليستقل الباخرة فجأة، وعندما اكتشف أنه فقد حذاءه خاف أن يلاقى العالم حافى القدمين، وعمره لا يتجاوز العاشرة. كان ذلك إيذانا بأن الأماكن فى حياته ستتبدل أسرع من ديكورات المسرح لأن المآوى جميعها مؤقتة، وأنه سيبحث إلى ما لا نهاية عن أشيائه التى تختزنها ذاكرة الطفل، وأنه سيتحول إلى حضور على الورق، إلى شبح بين حالات الهجرة الجبرية واللجوء.
***
شهادات أطفال اللجوء أو الهجرة القسرية أو النزوح أو التطهير العرقى أو نقل السكان، أيا كان المسمى، تطارد أبطالها مدى الحياة. عرف ذلك الأرمن الذين تعرضوا لإبادة جماعية، ثم ضحايا الهولوكوست، ومن بعدهم الفلسطينيون، ثم ها نحن نشهد حاليا موجة نزوح إنسانى لم يعرف العالم مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. حروب أهلية وهويات محتقنة وتحالفات دولية، طردت شعوب من بلدانها: سوريون وعراقيون وليبيون ويمنيون... والبقية تأتى. لا أرغب فى ذكر الإحصاءات فيتحول البشر معها إلى أرقام ضمن جداول المنظمات الدولية وبياناتها الرسمية، لكن أفضل التركيز على كم الروايات والشهادات والنصوص ــ بعضها أدبى بالطبع ــ التى سيخلفها لنا هذا الطوفان المأساوى.
التاريخ يتحول إلى ذاكرة، هكذا حدث من قبل ويحدث دائما. ذاكرة تشغل المؤرخين كما الأدباء الذين يعكفون على تخليدها عبر شخصيات من لحم ودم، بعد التكثيف والترتيب وإضافة بعض التفاصيل الشخصية وإعمال الخيال. ومهما كان حجم التغطية الإعلامية وسرعتها وانتشارها، ومدى التأثير الذى تحدثه الصور المتلاحقة فى عقل المتلقى وقلبه، لا شىء يضاهى قوة ما سيرويه أبطال قد يلومون أنفسهم لأنهم ظلوا على قيد الحياة، فى حين قضى ذووهم. عاش هو ومات من كان إلى جواره، خلال لحظة عجز الأهل فيها تماما عن توفير الحماية. إحساس بالذنب تجاه هذه المنطقة الرمادية التى وقفنا فيها يوما، فنجونا ورحل الآخرون.
تماس مع الهلاك، من قمة التضامن إلى الأنانية المفرطة التى تجعل الفرد أسيرا لاحتمالات الحياة وفرضياتها. يتحول هذا كله إلى مادة أدبية وفلسفية بمرور الزمن. يلح على الناجين شعور بضرورة تخليد ذكرى من غادروا إلى الأبد، دون سابق إنذار ورغما عنهم.
***
قطعا هناك من بدأ الكتابة بالفعل، فى معسكرات اللاجئين هنا وهناك، أو فى الخلاء داخل هذا الميناء أو ذاك... وهم فى انتظار إذن بالدخول أو تصريح قد يأتى وقد يطول انتظاره، وربما فى ظل تراكيب سكانية مختلفة. النازحون الجدد يسجلون بالطبع ما يمرون به، كما فعل من قبلهم، لأنهم فى حاجة لأن يقولون إنهم مروا يوما من هنا، إنهم باتوا فى العراء ومشوا فى صفوف نحو الشتات، كما كنا نرى فى الصور الأرشيفية بالأبيض والأسود. هم مهددون فى وجودهم وبالتالى يرغبون فى ترك ذكرى أو أثر. كراسات، وخطابات، ورسائل محمول، ومذكرات يومية، وتغريدات، ورسومات، إذا ما تم تجميعها عبر الحدود وفى المنافى والمخيمات ستكون خير إدانة لمن ترك الوضع يتفاقم أو تسبب فيه. متى تزداد وتيرة هذه النصوص ومتى تتوارى؟ وكيف لها أن تصل إلى الأغلبية الصامتة أو لمن يكتفون فقط بالتعاطف؟
حكايات الأحذية المفقودة والأوطان والبيوت التى تركت شاغرة والغرقى والسبايا فى حاجة إلى دراسة وتجميع وتحليل لنرى كم نحن مذنبون، وكيف يفتت اللجوء شخصية اللاجئ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved