المظاهرات.. والوصايا العشر

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 4 أكتوبر 2019 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

• مرت الأسابيع الماضية ثقيلة على الجميع، دعوة للمظاهرات وإحباط لها، شكاوى مكتومة وظاهرة من طبقات كثيرة أغلبها اقتصادى وأشملها يأس بعض الشباب من قرب تحسن الأحوال، مياه كثيرة جرت فى نهر المظاهرات التى أحبطت يعرفها الجميع ولكن السؤال الملح.. ماذا بعد؟ هل ستراجع كل الأطراف حساباتها لتحقق مصالح الأوطان وتدرأ مثل هذه الظروف الصعبة؟ هل يمكن أن نضع نقاطا مضيئة تعلمناها من دروس هذه الأيام، نسوقها للآخرين فى كبسولات دقيقة مثل الآتى:

• أولا: أى مظاهرة كبرى فى ميادين القاهرة والأقاليم ستتحول من السلمية إلى العنف والحرق:
• كان عمرى وقتها 28 عاما وقلت يوما لأحد الضباط الكبار بعد منع مسيرة سلمية فى القاهرة: لماذا المنع ما دامت سلمية؟ قال لى: هناك قاعدة مستقرة مفادها «أى مظاهرة ضخمة فى القاهرة تعنى تحطيم القاهرة أو حرقها وقد يؤدى إلى إراقة دماء كثيرة».
• قلت له: كيف ذلك ما دامت سلمية؟
• قال: لا تغرك الكلمة فكل المظاهرات تبدأ سلمية ثم تتحول فجأة إلى العنف والحرق، فكلما سارت المظاهرات فى الشوارع اكتسبت أيضا أنصارا كثيرين بعضهم عاقل وأكثرهم متهور وغير منضبط ولا حضارى، يكفى أن شخصا واحدا يلقى حجرا على أى منشأة يكرهها ليقذف الجميع مبانى كثيرة بالحجارة، أو يلقى واحدا جركن بنزين ثم يشعله فتحترق القاهرة كلها.
• قلت له كيف؟ قال: مظاهرات 17 ,18 يناير التى أشعلها اليسار المصرى ضد رفع سعر بعض السلع بدأت سلمية ثم حرقت كل شىء مما استلزم نزول الجيش إلى جوار الشرطة، ذلك فضلا عن الخسائر فى الأرواح والاقتصاد وسمعة البلاد.
• مرت الأيام ونسيت الحوار وما جرى فيه وخاصة أن هذه المسيرة لم تتم، وتعاقبت الأيام حتى قابلت يوما بعض المعتقلين الجدد وكنت أحب سماع قصص حياة كل منهم، فاختلى بى أحدهم وحكى لى قصة غريبة مفادها أنه وثلاثة آخرين كانوا سيشاركون فى المسيرة الخضراء، وقد جهزوا قنابل يدوية لإلقائها على الشرطة إذا تصدت للمسيرة أو أطلقت عليها الرصاص أو الغازات.
• تأكدت منه مرارا وسألته: هل كان الشيخ حافظ سلامة «منظم المسيرة» يعرف ذلك؟ قال: لا.. وإلا كان رفض مشاركتنا أو سلمنا للأمن.
• قلت له: المسيرة سلمية فلماذا تحضرون القنابل وتورطون الشيخ والمتظاهرين السلميين؟ فقال: كنا نريد حمايتها.
• قلت: ولكنكم بذلك قد تحدثون مجزرة متبادلة تراق فيها الدماء بغير مبرر.
• فى هذه الليلة استرجعت شريط الحديث مع الضابط الكبير والذى لم أكن مقتنعا به وقتها.
• قلت لنفسى: المظاهرات فى الجامعة تختلف عن المظاهرات فى الشوارع، فى كل مظاهرة هناك آلاف العقلاء وعشرات أضعافهم ممن لا يستطيع أحد التحكم فى أقوالهم وتصرفاتهم وخاصة إذا شعروا قوة فى أنفسهم وضعفا فى الشرطة، أو أطلق لهم العنان للتظاهر فى الشوارع بحرية، فكل الثورات والمظاهرات تبدأ سلمية ثم تعمد إلى المولوتوفية والحرق والدمار.
• استرجعت شريط المظاهرات فى تاريخ مصر، فثورة يناير بدأت سلمية ثم ركبها العنف فحرقت 90 قسم شرطة، وعشرات الأحياء والمحاكم بما فيها من وثائق تحفظ حقوق المواطنين، فضلا عن مقار الحزب الوطنى، حتى مقار المطافئ التى تخدم الناس بحياد حرقت كذلك دون عقل أو روية. كنت أمر عليها كل يوم بالقرب من منزلى وأعجب لهؤلاء الذين حرقوها، فضلا عن آلاف من سيارات الشرطة تم حرقها، مع أنها ستشترى بعد ذلك، كما ستجدد الأقسام من أموال دافعى الضرائب، فضلا عن المحلات التى نهبت.
• الثورات والمظاهرات عادة ما يركبها عتاة المجرمين بعدما يلوح نصرها وانكسار مؤسسات الدولة.
• لقد تم حرق أكثر من 60 كنيسة و50 نيابة ومحكمة و10 محافظات وقرابة 40 قسم شرطة وأكثر من 60 مجلس مدينة وحيا فى يوم واحد وكل ذلك تم من خلال مظاهرات حاشدة فى اليوم الذى تلا فض اعتصام رابعة.
• كانت المظاهرات تسير، تقف أمام الكنيسة، تهتف ضدها فقط بعدها بلحظات تجد بعض المتظاهرين يتسللون وحدهم لحرقها، لا تتحرك المظاهرة إلا بعد الحرق، وهكذا تم مع كل محافظة من المحافظات العشر والنيابات والمحاكم.
• قد يكون من حركوا المظاهرات لا يريدون حرق هذه الأماكن ولكنها حتما ستحترق.
• المظاهرات تبدأ سلمية ثم تنجرف دوما إلى العنف وخاصة إذا كانت فى مجتمع محتقن فقير غير متحضر ملىء بالبلطجية ويعانى من الكبت الشديد فيحدث الانفجار الذى لا يسيطر عليه أحد فى مثل هذه اللحظات.
• تأملت كل تاريخ المظاهرات فى الشوارع، يبدأها العقلاء والثوار الحقيقيون ثم يركبها الجنون والحمق واللاعقل والبلطجية والذى يدفع الثمن دائما هم المخلصون.
• صوت الأحمق والغبى والدموى العنيف مسموع فى المظاهرات أكثر من صوت العقل والحكمة، الجموع الغفيرة لا عقل لها والحشود لا عقل لها، أما إذا ركبتها الجماعات السياسية فهى تستطيع السيطرة عليها أحيانا برجالاتها ونظامها ولكنها توجهها لمصالحها الذاتية وتجهزها بعد ذلك للعنف والحرق، وتدفع الثمن غاليا عليها، وتحاسب على كل المشاريب وعلى كل الحرق والتدمير.
• الشوارع فى بلادنا بما فيها من كنائس ومحال تجارية وبيوت ليست مكانا للتظاهر وإلا احترقت أو دمرت أو أريقت فيها الدماء.
• العقلاء والحكماء يضحون بإخلاص لكن دعوتهم للإصلاح يركبها عادة الأفاقون والانتهازيون والبلطجية، وهؤلاء يدخلون المشهد سريعا فيفجرون ثم يخرجون سريعا قبل أن يحل العقاب فلا يجد سوى الشباب النظيف فيحشرون إلى السجون طوال عمرهم.
• هذه بعض ذكرياتى المجردة عن المظاهرات والتى حاولت تطبيقها على كل المظاهرات سواء التى حدثت فى 17,18يناير 1977 أو التى تلت ثورة يناير أو التى تلت فض رابعة بالقوة.
• أسوقها للقراء لعلهم يدركون أن المظاهرات الحاشدة لن تكون سلمية أبدا ولن يستطيع أحد السيطرة عليها بعد حين، وأنها ستتحول من السلمية إلى المولوتوفية ولو بعد حين، وهذا الحين معروف ومعلوم هو ظهور انكسار أجهزة الشرطة، وشعور الجميع أن المتظاهر سيحظى بالبطولة ولا يناله العقاب، حينها ستدخل المظاهرات كل الأطياف التى ستحول الشوارع إلى جحيم ودماء.

• ثانيا: أكبر خسارة حدثت فى هوجة المظاهرات السابقة أن هناك عدة آلاف شخص قبض عليه بينهم أبرياء بالتأكيد قبض عليهم على هامش هذه المظاهرات بعضهم احترازيا قبل المظاهرات وبعضهم لأسباب أخرى لا نعلمها.
• وأسرهم تتمزق كل يوم بفقدهم وغيابهم وتتسول فقط أن تراهم أو ترسل لهم الطعام أو تعرف مكانهم وتتواصل معهم، ولا يهمهم الآن سوى خروج عائلهم وابنهم.
• إن لم يكن لدعاوى المظاهرات السابقة سوى هذه الخسارة لكفت فضلا عن خسائر كثيرة لكل الأطراف ووقف كل المصالح التجارية والاقتصادية فى البلد فى مثل هذه الأيام.
• أزمة القيادة فى الحركة الإسلامية أن قرارات معظم القادة مهما كانت نيتهم تؤدى إلى حشر الآلاف من أبنائهم إلى السجون والمعتقلات أو تودى بهم أو بغيرهم إلى القبور.
• القائد الناجح هو الذى يخرج أبناءه وأتباعه من السجون لا أن يحشر الآلاف منهم فيها تباعا ثم لا يجد طريقة بعد ذلك لإخراجهم.

• ثالثا: الدول معروفة لا تتسامح ولا تتهاون فى منظومة أمنها مهما كانت النتائج، ولكن أكثر الإسلاميين لا يعرفون شيئا عن منظومة الدولة الثابتة فى كل العصور رغم تعاملهم معها عشرات السنين.
• يريدون منها أن تترك التظاهر فى كل ميادين مصر، ثم تضطر بعد ذلك للقيام بمذبحة حين تتحول المظاهرات إلى مليونية تحرق كل شىء، الدول لا تفعل ذلك، والأهون عليها منع المظاهرات فى الميادين والشوارع مهما كلفها المنع لأن ذلك أيسر عليها من القادم الأسوأ، لو أنها تركت هذه الحشود تزداد تدريجيا حتى تحتل كل الميادين فيكون الخراب للجميع.

• رابعا: يضع البعض سيناريو خياليا ثم يحاسب الكون كله عليه، الأولى أن ننظر إلى الواقع وما سيجرى فيه مهما كانت مرارته ونتعامل معه بالحكمة والروية والأناة والعقل والنظر الدقيق فى فقه المصالح والمفاسد، وفقه المآلات، وتقديم مصالح الإسلام والأوطان على مصالح الجماعات والأحزاب، ودرء المفاسد العظمى، وإحلال السلام والوئام واستدامته لأن الشعوب تستفيد من السلام أكثر من الحكومات.

• خامسا: الآن وبعد أن انتهت أزمة المظاهرات فعلى الدولة المصرية أن تراجع الكثير من سياستها وتعمل على الإفراج عن الشباب الذى قبض عليه قبل أن يتلوث فكره فى السجون أو يلتقط أفكار التكفير والتفجير والعنف والكراهية أو تدمر نفسيته تدميرا.

• سادسا: إعطاء قسط أكبر من الحريات العامة، والموازنة بين قوة الدولة ومؤسساتها وقوة المجتمع، فلا يمكن أن تكون الدولة قوية والمجتمع ضعيف جدا، والمؤسسات قوية والفرد فى حالة هوان وفقر.

• سابعا: تحسين الخدمات قبل أن ترفع أسعارها فهل يعقل أن أجر المكالمات الأرضية يكون سبعة جنيهات وتكون الفاتورة 110جـنيهات. أسعار الخدمات ارتفعت وفى نفس الوقت ساءت الخدمة لغياب المنافسة الحقيقية، وقس على ذلك خدمات كثيرة مرتفعة جدا ومتدنية فى الوقت نفسه.
• رفع المعاشات وخاصة المتدنية منها فهناك معاشات أقل من ألف ونصف لا تكفى أصحابها لعدة أيام.

• ثامنا: الاهتمام ببناء الإنسان قبل الحجر لأن سنغافورة، واليابان وغيرهما بدأتا بالإنسان أولا، لأنه هو محور الإصلاح الحقيقى، والإنسان المصرى أراه تائها.
• الاهتمام بالصناعة لأنها قاطرة التنمية الحقيقية، فهناك اهتمام بمجالات كثيرة ولكن الصناعة لم تأخذ حقها حتى الآن.
• تشجيع الاستثمار المصرى مع الأجنبى وخاصة أن عددا لا بأس به من المستثمرين المصريين يستثمر الآن معظم أمواله خارج مصر، فإذا عاد هؤلاء دارت عجلة الاقتصاد التى لن تدور إلا بفتح استثمارات كثيرة وخاصة فى مجالى الزراعة والصناعة.
• تخفيف الأحمال على الفلاحين والمزارعين الذين أصبحوا يخسرون فى زراعاتهم نظرا للتكاليف المرتفعة للتقاوى والبذور والكيماويات.هذا ما أعرفه ولعل غيرى يعرف أفضل منى فى مثل هذه المجالات.

• تاسعا: بعيدا عن الحملات الكبرى الصحية مثل حملة 100 مليون صحة لمواجهة فيروس C وغيرها من الحملات المدعومة من مؤسسة الرئاسة فإن منظومة الصحة المصرية ضعيفة ومهترئة، والمريض المصرى لا يلقى معاملة طبية ولا إنسانية جيدة فى كل المستشفيات الحكومية، بدءًا من الوحدة الصحية القروية، وانتهاءً بالمستشفيات الجامعية التى تعانى من إهمال وتكدس وفوضى وغير آدمية، حتى أنك تسمع جميع المرضى وأهلهم، يقولون إن أسوأ أيام قضيناها فى حياتنا هى فى المستشفى الجامعى الفلانى.
• فالمصرى يعالج فى الحقيقة على نفقته الخاصة، ويتعلم ابنه على نفقته الخاصة، فلا تعليم الآن إلا بالدروس الخصوصية، والمدرسون يطردون طلاب الشهادات من المدارس بطريق مباشر أو غير مباشر ليتفرغوا للدروس الخصوصية، فالعلاج والدروس الخصوصية قصمت ظهر ميزانية الأسرة المصرية التى لم تعد تتحمل شيئا، وأتحدى أن تجد مصريا لا يعطى أولاده دروسا خصوصية ثلث دخل أسرته أما مليارات وزارتى الصحة والتعليم فتنفق بطريقة خاطئة.

• عاشرا: تغيير لغة الإعلام من التعبوية والحماسية إلى مخاطبة وتنمية العقول والأفهام وعرض النماذج الشريفة والمشرفة باستمرار وما أكثرها فى مصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved