التسامح مع المعارضة السياسية

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 4 أكتوبر 2019 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

من القيم الأصيلة فى ثقافة الديمقراطية قيمة التسامح مع المختلف، وهذا التسامح يعمق الديمقراطية ويبرز جميع الآراء، ويعطى للشعب أن يشارك وبقوة، وذلك لأنه يعلم أن مبدأ التسامح هو مبدأ أساسى وهام، فالحريات الثلاث التى ترتبط بالتفكير والتعبير والتدبير إنما تنطوى على التسامح مع المعارضة السياسية، أو مع الآخر المختلف فى التوجهات والاتجاهات. وبالطبع يوصم بالاستخدام السيئ للسلطة كل من يحاول أن يحرم المعارضين من التعبير اللفظى والحركى عن أنفسهم، هذا مادام قولهم وفعلهم لا يخالفان القانون، ولا يشكلان اعتداء على حريات ومصالح الآخرين.
فى كتابه «رسالة فى التسامح» يضع جون لوك وهو من كبار الفلاسفة المدافعين عن التسامح مجموعة من الضوابط التى لا يمكن تعديها حتى يصبح التسامح قيمة إيجابية وعاملا على التعبير عن الذات، وبالتالى البناء الصحى للمجتمع الإنسانى.. وهو يرى أن هذه الضوابط تجعل التسامح لا ينزلق إلى التساهل أو اللامبالاة، أو حتى ما هو دون ذلك بكثير، وهو ما لاحظناه فى الأزمة الأخيرة، حيث لاحظنا أدبيات المعارضة وكيف تطورت إلى استخدام ألفاظ وتعبيرات خارجة بل ومنحطه ضد النظام، وهو نفس ما تورط فيه بعض من يحترمون النظام ويقدرونه ويدافعون عنه أيضا بألفاظ وتعبيرات خارجة، وهو ما جعل من القضية وسيلة للانتقام المتبادل الخارج عن الآداب. سواء من المعارضين للنظام أو من بعض الذين يتمسحون فى النظام ويقدرونه، وهكذا صار الحديث عن ما يليق وما لا يليق... أما ضوابط جون لوك للمعارضة فهى أولا: رفض الترويج لإشاعات ومعتقدات تهدد بتدمير المجتمع وإشاعة الفوضى وتدمير بنية الدولة وتعريض مصالحها الوطنية للخطر، والتعدى على أموال الآخرين وحرماتهم، وإبداء الولاء لحكام أجانب، ما يعنى خيانة الوطن، والخيانة ليست وجهة نظر، بل جريمة بشعة لا يجب التساهل أبدا فى عقاب مقترفيها. ولقد أقرت جميع الأديان السماوية والوضعية ثقافة التسامح، وأقرت المسيحية والإسلام مبادئ الإخاء الإنسانى، والأرض المشتركة التى يقف عليها جميع البشر مهما كانت خلفياتهم وأديانهم وثقافاتهم، والاعتراف بالآخر الدينى أو السياسى واحترامه، ومن أكثر من دعا لهذا الأمر هو الفيلسوف الإسلامى الكندى الذى دعا إلى خمسة منطلقات هى ضرورة البحث عن الحقيقة لذاتها، وعدم إحاطة رجل واحد بالحقيقة، بل قد لا يحيط بها الجميع، وتعرض الكل للخطأ، كما أن الوصول للحقيقة يتطلب مشاركة الناس جميعا. وأخيرا أن التسامح ضرورة من أجل تحصيل التقدم، لكن كثير من الممارسات التى قام بها الحكام فى البلاد العربية والإسلامية وكذلك فى البلاد الغربية الأوروبية المسيحية فى القرون المظلمة، كانت كارثية.
***
أما مفهوم التسامح ذاته فقد اختلف مفهومه فى الماضى عن ما هو عليه الآن. فمن قبل اكتسى المتسامح بطابع أبوى، ولم يكن هذا ناجما عن تطبيق مبدأ، أو فكرة عظيمة وعميقة إنما مجرد سلوك فاضل، ما يعنى أن هناك طرفا لديه اليد الطولى على طرف آخر، وأنه يتسامح معه من قبيل العطف والشفقة أو فعل الخير، من هنا تبدو فكرة التسامح مرتبطة بالتعالى والازدراء بل والطغيان، إذ إننا حين نقول لشخص ما إننا نتسامح مع ما يفكر فيه، فهذا معناه أن تفكيره لا قيمة له، لكننا سنغض الطرف عن ذلك من قبيل المجاملة أو الكرم الإنسانى. أما اليوم فقد تغيرت النظرة إلى مفهوم التسامح منذ أن ارتبط بشعار «الحرية والمساواة والإخاء» والذى رفعته الثورة الفرنسية، حيث تخلت فى مفهوم التسامح عن الطابع الأبوى، وأصبح يقوم التسامح على «الحق» و«العدل» الذى لا تفريط فيه، ويرتبط بالمواطنة، التى تعنى عدم التمييز بين الناس على خلفيات دينية أو سياسية أو طبقية، وهكذا اتفق المجتمع البشرى المتمدين على تعريف شامل للتسامح هو:
1 ــ الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثرى لثقافات العالم الإنسانى، ولأشكال التعبير السياسى، وأن يبنى ذلك على المعرفة والانفتاح والاحترام ،الاتصال وحرية الفكر، وهو ليس واجبا أخلاقيا فقط لكنه أيضا واجب سياسى وقانونى، والتسامح هو الفضيلة التى تيسر قيام السلام المجتمعى وإحلال ثقافة السلم محل ثقافة النزاع.
2 ــ لا يعنى التسامح بين الرئيس والمرءوس المساواة ولا يعنى التنازل والتساهل، بل هو قبل كل شىء اتخاذ موقف إيجابى فيه إقرار بحق الآخرين فى التمتع بحقوق الإنسان وحرياته المعترف بها عالميا، ولا يجوز بأى حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير القيام بتدمير أخلاقيات المجتمع أو مؤسساته.
3 ــ إن التسامح مسئولية تشكل عماد حقوق الإنسان، والتعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية والديمقراطية وحكم القانون، وهو ينطوى على نبذ الدوغماتية من المعارضة أو الإستبداد ويثبت المعايير التى تنص عليها المبادئ العامة لحقوق الإنسان.
4 ــ لا تتعارض ممارسة التسامح مع إحترام حقوق الإنسان، ولذلك فهى لا تعنى تقبل الظلم الإجتماعى، أو تخلى الفرد عن معتقداته أو التهاون بشأنها فعليه ألا يتردد فى الحوار حولها، وعلى الحكومة والأحزاب المختلفة والجمعيات الأهلية تسهيل مثل هذا حوار، وهذا يعنى ويثبت ويقرر أن البشر مختلفين بطبعهم، وفى مظهرهم وأوضاعهم وتوجهاتهم السياسية وقيمهم، وهذا يعنى أيضا أن آراء الأفراد لا ينبغى أن تفرض على الغير.
***
وبلا شك أن مصطلح التسامح يفترض الخطأ للذين نتسامح معهم، لذلك لابد من أن ننتبه أن الرأى الآخر لا يعنى الخطأ والخطية، لكنه يعنى وجهة نظر يمكن أخذها فى الاعتبار عند تقييم المواقف. هناك فكرة فلسفية تدعى «خلق العدو» أو تفصيله على المقاس، المتوارثة منذ قديم الزمان، فالتهديد الدائم من وجود عدو يلجأ إليها الكثيرون للانتقام من أعدائهم السياسيين، وهذه الحيلة تلجأ إليها المعارضة والأحزاب المختلفة لحشد الأتباع من ناحية ولتبرير الفشل من الناحية الأخرى، ولا سبيل لإنهاء اللاتسامح السياسى سوى التعمق فى الديمقراطية، على مستوى المفاهيم والتطبيقات، لأن الديمقراطية مثل التسامح هى وسيلة لتحقيق أقصى خير ممكن لأكبر عدد من الناس وذلك من زاوية احترامها للمختلفين فى الرأى والموقف.
لاشك أن ترسيخ قيم التسامح والديمقراطية باتت ضرورة فى عالمنا العربى الذى يواجه استراتيجيات لتدمير استقراره خاصة مصر، وتتعرض بعض بلدانه للتجزئة والتقسيم جراء التعصب ورفض الآخر الدينى أو السياسى، حيث توجد محاولات لا تهدأ لأستشراء العنف من خلال دول مجاورة تستضيف كل من يحاول الإضرار بمصر.. ومن هنا جاءت دعوة المصالحة والمسامحة مع سيادة القانون لتفويت الفرصة على مثل هؤلاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved