ماذا تعلمت من باقى زكى يوسف؟

محمد علاء عبد المنعم
محمد علاء عبد المنعم

آخر تحديث: الثلاثاء 4 أكتوبر 2022 - 7:37 م بتوقيت القاهرة

 

تعلمت الكثير من اللواء باقى زكى يوسف، صاحب فكرة استخدام خراطيم المياه لفتح ثغرات فى الساتر الترابى لخط بارليف، الذى بناه الاحتلال الإسرائيلى دفاعا عن احتلاله للأراضى المصرية فى شبه جزيرة سيناء.
تطورت علاقتى باللواء باقى منذ عامين تقريبا، عندما أخبرنى أطفال أسرتى أنهم تعلموا فى المدرسة عن حرب أكتوبر، وقررت أن يتكامل دور الأسرة مع دور المدرسة، وفكرت فى مدخل لتعريف الأطفال بقيم هذه الحرب العظيمة بأسلوب يتناسب مع أعمارهم.
وجدت فى قصة باقى زكى يوسف عديدا من الدروس التى أحببت أن أحكيها للأطفال، ووجدتنى أتعلم معهم دروسا ما تزال مؤثرة فى حياتى وعملى إلى اليوم.
• • •
تخرج باقى زكى يوسف من كلية الهندسة جامعة عين شمس عام 1954، وتقدم للعمل بالقوات المسلحة، والتحق بسلاح المهندسين العسكريين، ثم انتدب للعمل فى بناء السد العالى، وهناك شاهد استخدام المياه لتحريك أطنان من الرمال فى إطار عملية بناء السد.
انتقل باقى بعد حرب 1967 للعمل فى الفرقة 19 مشاة المتمركزة غرب قناة السويس كرئيس لفرع المركبات، وفى يوليو عام 1969 كُلفت كتيبته بتقديم خطة لعبور قناة السويس وفتح ممرات فى الساتر الترابى لخط بارليف.
اجتمع قائد الفرقة بقادة أفرعها، وكان غالبيتهم من الشباب، وبدأ كلٌ من القادة يشرح الوضع ويطرح أفكاره، واقترح القادة عددا من البدائل لفتح ثغرات فى الساتر الترابى، منها استخدام المدفعية أو المتفجرات أو الصواريخ أو القنابل، إلخ.
طلب باقى الكلمة، وقال جملة واحدة بعد أن شرح الموقف، حرصت أن يحفظها أطفالى عن ظهر قلب، وأن يتذكروها كلما واجهتهم مشكلة من مشكلات الحياة، حين تنكسر لهم لعبة أو يخسرون فى مسابقة، وأرجو أن تظل هذه الجملة فى أذهانهم كما بقيت فى ذهنى منذ سمعتها من اللواء باقى، حين قال: «سبحان الله، سمح بالمشكلة، وحط حلها تحتينا».
بهذه البساطة، وهذا الإيمان، بدأ باقى يشرح لزملائه فكرته العبقرية فى بساطتها وقدرتها، فكرته التى استوحاها من عمله فى بناء السد العالى: نستخدم «طرمبات ماصة كابسة، تثبت على زوارق خفيفة، تسحب المياه من قناة السويس، وتضخها باتجاه الساتر الترابى، فى الأماكن المطلوب فتح الثغرات فيها»، ليقع التراب بما فوقه.
طارت هذه الفكرة عبر قيادات القوات المسلحة، حتى وصلت إلى الرئيس جمال عبدالناصر، واقتنع بها القادة، وبدأت تجربتها، إلى أن نجحت فى تحقيق هدفها، وتمكنت القوات المسلحة المصرية خلال الساعات الأولى من حرب أكتوبر المجيدة أن تفتح أكثر من ستين ثغرة فى الساتر الترابى لخط بارليف الذى ظن المُحتل أنه لا يقهر، وانهارت مع تراب السد أوهام الاحتلال وغروره وأساطيره.
• • •
بعد أن حكيت القصة لأطفالى، بدأنا مناقشة الدروس التى نستفيدها منها.
الدرس الأول الذى خرجنا به هو: لو لديك فكرة، قم وتحدث عنها، ولا تخف، فكرتك حتى وإن بدت بسيطة فى ظاهرها، ربما تكون قادرة على تغيير التاريخ.
وفكرة باقى زكى يوسف بالفعل غيرت التاريخ، تاريخ المنطقة، وتاريخ العسكرية، وبقيت خطة الهجوم فى حرب أكتوبر تُدرس فى عديد من الأكاديميات العسكرية حول العالم.
الدرس الثانى أن الأفكار الكبرى لا تولد من فراغ، لقد درس باقى زكى يوسف الهندسة فى جامعة متقدمة فى هذا المجال، والتحق بالعمل فى بناء السد العالى، فى بيئة شديدة الحرارة، وسط آلات ومعدات ضخمة، وبالتالى فى درجة أعلى من الخطورة مقارنة بغيرها من بيئات العمل. ومن الخبرة والعلم والعمل تولد الأفكار الكبرى.
الدرس الثالث الذى خرجنا به من قصة باقى زكى يوسف هو أهمية أن تعمل على فكرتك، وألا تتركها لتموت بالإهمال، إن الفكرة القادرة على التأثير هى الفكرة التى يعمل صاحبها على تطويرها بالبحث والعمل والتجربة، لقد قامت القوات المسلحة المصرية بتجربة عديد من المضخات وصولا إلى النوع الذى تم استخدامه فى حرب أكتوبر 1973، وأجرت أكثر من 300 تجربة لاستخدام خراطيم المياه لفتح ثغرات فى ساتر ترابى، كان أولها فى حلوان، وآخرها فى جزيرة البلاح داخل قناة السويس فى مواجهة الساتر الإسرائيلى.
ومن هنا تحدثت مع أطفالى عن أهمية العلم والإيمان، ومعنى أن يأتى أحدهما قبل الآخر أحيانا، لقد بدأ باقى زكى يوسف شرح فكرته لزملائه بالتسبيح، حين قال: «سبحان الله، سمح بالمشكلة، وحط حلها تحتينا»، ولكن حين سأله أحد زملائه: «وماذا لو لم يقع الساتر الترابى بعد ضخ المياه فيه؟». هنا رد باقى بثقة: «مش ممكن، هذه الفكرة أساسها قانون نيوتن الثانى».
هنا تقدم العلم على الإيمان، لأن أساس الإيمان هو أننا مكلفون بالعلم والعمل والسعى.
وحين قامت القوات المسلحة المصرية بآخر تجربة قبل اقتحام القناة لفتح ثغرات فى ساتر ترابى فى جزيرة البلاح التى تقع داخل قناة السويس، تحت أعين طائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية لإسرائيل وحلفائها، جاء الإيمان بالله والثقة فى نصره متقدمين على العلم، مدعومين بخطة للخداع الاستراتيجى، وآمن القادة المصريون أن هذه التجربة يمكن أن تمر دون أن يلحظ العدو أهميتها فى الخطة المصرية للهجوم الذى صار وشيكا، وقد كان، وعميت أعين العدو عن إدراك أهمية هذه التجربة.
الدرس الخامس الذى تعلمناه من قصة باقى زكى يوسف هو أهمية الحوار والاختلاف والتنوع، والعمل والسعى فى طلب العلم فى أى مكان. لقد ولدت فكرة باقى زكى يوسف فى أقصى جنوب مصر، فى محافظة أسوان، أثناء عمله فى بناء السد العالى، وغيرت التاريخ حين طبقت فى أقصى شمال شرق مصر، على طول جبهة قناة السويس.
أخيرا، نصحت الأطفال بعدم الاستماع لمن يريد تثبيط معنوياتهم، وألا يستسلموا لإعلام عدوهم، لقد كانت أسطورة الساتر الترابى الإسرائيلى ومن ورائه الخط الدفاعى وهما صنعة الإعلام، وربما أراد الله أن يذل المحتل أن جعل انهيار كبريائه ليس بالقنابل ولا بالمدفعية، ولكن بوسيلة أبسط كثيرا، وهى خراطيم المياه.
وسهل انهيار الساتر الترابى ما استثمرته قوات الاحتلال لتعليته وزيادة انحداره وتقريبه من شاطئ القناة، ما جعل من السهل حلحلة الرمال باندفاع المياه، ولم تكن القوات المصرية فى حاجة إلى خراطيم مياه طويلة أو طرمبات تقوية، فقد صار الساتر فى مرمى المياه التى حملتها القوات العابرة، وأعمى الغرور بصائر المحتلين.
• • •
إن قصة باقى زكى يوسف الملهمة ما تزال تشكل رافدا لقيم أؤمن بها فى عملى العام وحياتى الشخصية، وأحرص على تذكير أطفالى بها كلما سمحت الظروف، إذا انكسرت لعبة أو استعصت مسألة حسابية على الحل، أو تعذر الانتقال إلى مرحلة أعلى فى تدريب رياضى، أو فشل أحد الأبناء فى بناء مجسم على رمال الشاطئ.
أذكرهم دائما بقصة باقى زكى يوسف، فأجد البكاء قد تحول فى عيونهم الصغيرة إلى لمعة كما لو كانت لمعة النصر، وأرى الابتسام يعلو وجوههم حين أقول لهم «تذكروا ما قاله عمكم باقى زكى يوسف، تذكروا إن ربنا ممكن يسمح بالمشكلة، لكن بالإيمان والعلم والعمل، هنلاقى الحل تحت رجلينا».
رحم الله اللواء باقى زكى يوسف، وأدخله فسيح جناته.
عضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved