حاكم.. ومحكوم.. وبينهما حكيم

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الأربعاء 4 نوفمبر 2009 - 10:12 ص بتوقيت القاهرة

 توالت فى الأيام الأخيرة مقترحات تنطلق من واقع قلق يعانيه المجتمع المصرى، ومستقبل مقلق يتوعده إذا لم تجر محاولات جادة للبحث عن مخرج يحقق أفضل ما يرجى من نتائج بأقل ما يمكن من الخسائر. ويكاد يكون هناك إجماع ــ خارج نطاق جمعية المنتفعين ــ حول خطورة العواقب إذا لم يتخذ من الخطوات ما يحول دون حدوث مفاجآت لا تحمد عقباها. ومن هذا المنطلق، تتجه الاجتهادات إلى البحث عن مخرج مع الالتزام بمحددات الشرعية القائمة، حتى يمكن إحلال مقومات بديلة لها تتفادى حدوث ما لا تحمد عقباه.

ولعل هذا هو ما دفع الأستاذ هيكل لطرح فكرته التى جارت مبادرات عديدة دار حولها الحوار مؤخرا فى العديد من مواصفاتها، وأفصحت بصورة محددة عن إمكانية استيعاب كل الأهداف التى أعلنتها تلك المبادرات، وتأمين الوسائل المستخدمة من تهمة الخروج عن الشرعية القائمة. وليس هذا بغريب عليه لأنه من القلائل الذين بنوا صرحا إعلاما رصينا يعرض المشاهد من كل جوانبها بصورة موضوعية، تقيه من أن يصبح طرفا فيها، ويحرص على جمع المادة التى توضح أدق معالمها، ليقود المستمع أو القارئ لاستخلاص ما يهديه إليه تفكيره وفق موقعه منها. وقد انطلقت أقلام وأفواه عديدة تناقش أطروحته، عبر كل منها عن انفعال ظاهر أو باطن بما تحمله من معانٍ بحكم تباين تقدير المنافع الشخصية مما هو قائم وما يرجى إقامته. وباعتقادى أن مناقشة الموضوع لا يجب أن تبدأ مما انتهى إليه حديث الأستاذ هيكل، بل من المنطلقات التى قادت إلى مشاركته الكثيرين فى تخوفه مما يمكن أن ينطوى عليه المستقبل القريب، والقريب جدا.

ويمكن تلخيص جوهر المشكلة التى تواجه مصر فى تفاقم فجوة التنمية إلى الحد الذى يجعل المسار الذى رسمه النظام القائم معرضا لعدم قدرته على الاستمرار، لافتقاده مقومات كل من الكفاءة والعدالة فى كل أركانه: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بعبارة أخرى فإن القضية ليست مجرد خلاف على مادة أو أكثر من دستور تعددت محاولات ترقيعه بوضع غلالات رقيقة على عورات خطيرة، نسجتها مهارات تتباهى بالقدرة على تدبيج صياغات تدور حول المشكلات لتؤكد استمرارها بحكم القانون بدلا من معالجتها، وهو ما أحيا مصطلح «الترزية»، تعبيرا عن تفصيل القوانين وفق أهواء طالبيها، بدءا من أتفه الأمور وصولا إلى محددات النظام الكلى للدولة.

فحينما أراد السادات أن يستنهض أعداء الثورة أكثر من الحديث عن «الحقد»، لإحياء رغبات مكبوتة لدى طائفة بنت وجودها ومكانتها على حساب الأغلبية الساحقة المسحوقة، فى استرداد ما حرمت منه. وبدلا من أن يمضى قدما لتحقيق شعار «تذويب الفوارق بين الطبقات» الذى دعت إليه ثورة ساهم هو فى إطلاقها، أفسح المجال لطبقة جديدة سماها «الطفيليين» ليكونوا ستارا يتسلل من ورائه المغتصبون لحقوق قوى الشعب العاملة التى ضاقت أمامها فرص العمل لتنتشر خارج الوطن بحثا عن الرزق، ولو هلكت غرقا أو جردت من حقوقٍ تكفل كرامتها. ومن خلال تعديل الدستور بواسطة استفتاءات ضمنت له 99% من الأصوات، أعاد بناء الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث تتجمع السلطة بيد رئاسة الدولة، مع تأكيد عوامل التفكك الاجتماعى حتى لا تقوم «دولة المؤسسات وسيادة القانون» على أساس توافق اجتماعى بين فئات تسعى لأن تجد لنفسها موقعا لائقا فى تنظيم اجتماعى تتشارك فى بنائه وفى العمل معا على بقائه. فالتنظيم السياسى جاء بقرار سيادى مغلفا باستفتاء شعبى، الشعب منه براء، فأنشأ كيانا وصفه بأنه «وسط»، ومن حوله وصيفين، ليكون هو أتوبيس السلطة الذى يستقله كل من يريد أن يحظى برضا الحاكم، ولو كره المحكومون. والتنظيم الاقتصادى تستر وراء انفتاح ثم إصلاح لتنفرد فيه جهات حكومية بالتصرف فى ممتلكات الشعب، وتواصل البحث عن مخرج للتخلص مما بقى من «أصول».

والتنظيم الاجتماعى أصابته شروخ عديدة، امتدت إلى ما ضرب وحدة الشعب فى الصميم وصولا إلى تغذية صراع دينى وتنابذ طائفى، غريبين على شعب آمن بأن الدين لله والوطن للجميع. وفى ظل مفهوم للاستقرار يقوم على اعتبار أن التغيير صدمة يجب تجنبها، حرص الحاكم على تواصل النظام القائم، واستمراره فى المستقبل، بينما تتصاعد لدى المحكومين رغبة فى تغيير يتسع مداه كلما طال الزمن. ومن هنا تقاربت الدعوات إلى التغيير فى توسيطها مجموعة من الحكماء بين الحاكم والمحكومين لعلهم يتفادون ما يقود إليه الكبت المستمر لرغبة التغيير من انفجار يعصف بالجميع. وقد اكسب هيكل هذه الصيغة إطارا مؤسسيا يعتبر جسرا يربط بين الطرفين لإعادة ربط العقد قبل أن ينفرط.

الغريب أن محصّلى أوتوبيس السلطة (الكمسارية) أصابهم الهلع أن يقبل الرئيس مبارك الصيغة فينحدر بهم الأتوبيس إلى الهاوية، وهو ما ينم عن شعور عميق بأن أى تغيير سوف يحيل الأوتوبيس إلى الاستيداع، وأن التغيير قادم لا محالة. ولو أنهم مؤمنين بعدالة قضيتهم وثباتهم فى أماكنهم بحكم الجدارة التى يزعمون، لكانوا أول من يرحب بهذا الاقتراح بل ويطالب به.

ومع قرب انتهاء مدة الرئاسة الحالية، نراهم يسعون محمومين لتجميل وجه حزب اغتصب وسائل الإعلام ليؤكد أن مصدر ترديها هو تبعيتها للسلطة. أما راغبى التغيير فينتظرون فى صبر تغير الحاكم، ليس كرها له وإنما أملا فى أن تتاح الفرصة لمن ينزع البساط من تحت أقدام راكبى الأتوبيس. وعندما يستعرضون سيناريوهات الرئاسة القادمة يجدونها ــ فى ظل النظام القائم ــ تنحصر فى ثلاثة: إما التجديد للرئيس الحالى، أو فرض الحزب الوطنى الأوتوقراطى مرشحا تتفق عليه جمعية المنتفعين، أو تصعيد السيد جمال مبارك بموجب المسلسل الممل الذى تتابعت حلقاته، وهو ما يطلق عليه التوريث تعبيرا عن الشعور بأن هذا ما يريده الرئيس مبارك، وهو ما يغلق باب التغيير نهائيا لأن تتابع الأحداث التى بلغت الذروة فى المؤتمر الأخير للحزب يؤكد حرمان الشعب من فرصة انتقال السلطة ممن تسلموها بالتسلسل الوظيفى أو العائلى إلى أحد ممن شاركوا الشعب كفاحه من أجل حياة كريمة، يسعده أن يبقى فى صفوفه لا أن يُرضى طموحه باعتلاء قمة الهرم.

إن سبب المشكلة هو أن النظام القائم رئاسى لا برلمانيا، وهو فى الوقت نفسه أوتوقراطى يمنح الحاكم سلطة واسعة دون أن يصونها بضوابط فعلية، بغض النظر عما ينطوى عليه الدستور من قواعد للتعامل مع أوضاع متناهية فى الجسامة. إلا أن هذا هو فى نفس الوقت مفتاح الحل للمشكلة. فبوسع صاحب السلطة تفويض ما يساعد على حسن تسيير الأمور. ولا يوجد ما يجبر رئيس الدولة على أن يكون فى نفس الوقت رئيس الحزب.

وإذا كان الرئيس مبارك قد ساند الحزب الحاكم لحكمة يقدرها هو، فإن فى وسع السيد جمال مبارك مواصلة جهوده الحزبية فيعلن أنه يفضل العمل مع القاعدة الشعبية حتى وإن كان العمل السياسى (الشريف) لا يدر دخلا يضمن له العيش فى عز وجاه. أما فيما يتعلق بمجلس الدولة والدستور، فإن الأجدر بأداء مهامه هم المحكومون من خلال تنظيماتهم السياسية والنقابية. أما الحكماء فرغم تقديرنا لآرائهم، فإن دورهم يأتى فى تقديم المشورة للمحكومين، ولنتركهم فى مواقع تنتفع منها الدولة والإنسانية جمعاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved