من وعد بلفور البريطاني إلى التوحد مع المشروع الأمريكي : ليست فلسطين وحدها بل الأمة العربية جميعا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 4 نوفمبر 2009 - 10:31 ص بتوقيت القاهرة

 وفى الذكرى الثانية والتسعين لصدور «وعد بلفور» بإقامة «وطن قومى لليهود» على أرض فلسطين العربية، أسقطت وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة هيلارى كلينتون آخر ما كان تبقى من وعود رئيسها باراك أوباما، وسلفه جورج بوش،حول «دولة ما» لشعب فلسطين على بعض البعض من أرضه التى ظلت أرضه على مر الأزمان.

وعلى خطورة ما ترتب من نتائج على تنفيذ «وعد بلفور» بإقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية، بالقوة المسلحة، وتواطؤ الانتداب البريطانى مع العصابات اليهودية المعروفة وأشهرها «شتيرن» و»الهاجاناه»،على ترويع الفلسطينيين بالمذابح المنظمة التى أبادت سكان قرى بكاملها ولم تفرق بين الرجال والنساء والأطفال، تمهيدا لطردهم أو إجبارهم على الخروج من ديارهم هائمين على وجودهم إلى الأقطار العربية الأقرب (لبنان وسوريا خاصة) ــ فإن قراءة متأنية للأحداث التى مهدت ثم رافقت تنفيذ هذا الوعد «الذى أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق»، تكشف أن «وعد بلفور» إنما كان خلفه فى سلسلة من المخططات والسياسات الغربية التى مزقت المشرق العربى بأهله إلى مجموعة من الدويلات العاجزة والمفتقرة إلى أبسط مقومات الحياة، فكيف تكون «دولا» قابلة للحياة، وقادرة على حماية وجودها ذاته، ناهيك بالأهلية والكفاءة والقدرة على نجدة الشعب الفلسطينى وتأمين الدعم اللازم له لمواجهة جيش نظامى جاء جاهزا عبر الفرق اليهودية التى كان قد تم حشدها وتدريبها وتسليحها عبر الحرب العالمية الثانية، لتتولى «تطهير» الأرض من أهلها تمهيدا لإقامة الوطن القومى اليهودى فى قلب مشرق عربى ممزق إلى دويلات، فيها الإمارة، وفيها المملكة، وفيها الجمهورية، وفيها الكانتونات الطائفية، وفيها الأوهام الإمبراطورية التى تحولت إلى كوابيس تطارد أصحابها فى المنافى.

*****

قبل إقامة إسرائيل بثلاثين سنة، أى مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، كان الحلفاء، وبالذات منهم البريطانيون والفرنسيون، قد توزعوا فى ما بينهم المشرق العربى، أى: فلسطين وسوريا التى اقتطعوا منها إمارة شرقى الأردن للأمير عبدالله(الذى سيغدو مع نكبة فلسطين ملكا)، ثم طردوا من دمشق الابن الثانى للشريف حسين، فيصل الذى نودى به ملكا، إلى بغداد حيث سيكون عرشه الهاشمى، تمهيدا لأن يمزقوا سوريا إلى أربع دويلات طائفية لم تعمر طويلا، بسبب تمسك السوريين بوحدتهم...أما لبنان فقد ابتدعوا له كيانا خاصا بإضافة الجنوب والبقاع والشمال وبيروت إلى «متصرفية جبل لبنان» لتكون «الجمهورية اللبنانية» التى لا تزال تتصدع مع كل حدث كبير يقع فى سائر الدول من حولها، ناهيك بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليها والتى توالت وتدرجت عنفا حتى صارت حروبا شاملة (منها الاجتياح الإسرائيلى فى صيف 1982، والذى أدى إلى طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان، ومنها الحرب الإسرائيلية على لبنان ومقاومته الباسلة فى صيف 2006، فضلا عن أنصاف حروب استهدفت جنوب لبنان والمقاومة فيه خلال أعوام 1993و1996و1999 إلى أن أخرجت المقاومة المجاهدة قوات الاحتلال الإسرائيلى من كامل الأرض اللبنانية فى 25مايو 2000).

من هنا نفهم لماذا عجزت «دول» عربية عدة عن مواجهة «العصابات الإسرائيلية» التى صارت جيشا قويا بسلاح طيران ودبابات ومدفعية ميدان، وبقادة مؤهلين وقد اكتسبوا خبرات قتالية ممتازة عبر جيوش الحلفاء، بينما لم يكن لدى أى دولة عربية جيش بالمعنى المعروف للكلمة، فى ما عدا مصر التى كان الاحتلال البريطانى يتحكم بقرارها، ومع ذلك فقد بعثت بجيشها إلى الميدان حتى لا يسجل عليها أنها تخلت عن فلسطين وتقاعست عن نجدة شعب شقيق.
على أن الترجمة العملية لوعد بلفور جاءت من ألمانيا وعبر احتلالها لدول أوروبية عدة، حيث قام الجيش النازى بتنظيم مذابح ومعتقلات عنصرية لليهود فى أكثر من دولة أوروبية بينها على وجه الخصوص ألمانيا ذاتها وبولونيا.
وفر هذا الاضطهاد النازى ذريعة دموية لمطالبة يهود أوروبا بدولة لهم، تكون «وطنهم القومى» حيث يأمنون على أنفسهم من الإبادة. وبرغم أن الحلفاء كانوا قد درسوا أكثر من خيار لمثل هذه الدولة اليهودية، فقد أصر اليهود على فلسطين، وعززوا مطالبتهم بالوعد التعيس الذى كانوا قد حصلوا عليه من وزير خارجية بريطانيا آنذاك، آرثر بلفور.. خصوصا أنهم كانوا استطاعوا خلال الحقبة الفاصلة بين الحربين الاستيلاء على مساحات واسعة من أرض فلسطين، أقلها بالشراء ومعظمها بمساعدة قوات الاحتلال البريطانى، ثم أتموا «مصادرة» أراضى الفلسطينيين، وفيها المدن والبلدات والقرى، عبر الغارات المنظمة التى شنتها عليهم العصابات اليهودية التى ستغدو «جيش الدفاع الإسرائيلى» قبيل وخلال الحرب التى امتدت متقطعة على امتداد العام1947 وحتى15 مايو 1948.

ما تحاول تبيانه هذه القراءة المتأخرة للحقبة الزمنية التى سبقت إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها أن الأهداف البعيدة لهذا المشروع كانت تتجاوز الهدف الإسرائيلى الخطير، وبينها:

الفصل الكامل بين مشرق الوطن العربى ومغربه، ففلسطين كانت هى الرابط بين مصر ومن خلفها أفريقيا العربية، وبين سوريا ومن خلفها العراق والجزيرة العربية.. وبينت «الإغراءات» اليهودية التى قدمت لبريطانيا «أن إسرائيل ستكون الحامية القوية لقناة السويس بأهميتها الحيوية للإمبراطورية فى ما وراء البحار». ولقد تمت الخطوة العملية فى هذه الخطة عندما استولت القوات الإسرائيلية على «أم الرشراش» فوضعت أقدامها عند بعض الشاطئ العربى للبحر الأحمر (إيلات حاليا، التى غدت قاعدة بحرية قوية).

إقامة قاعدة غربية أمامية على الأرض العربية، تظل مهما تبدلت الأحوال، أقوى من أية دولة عربية منفردة، حتى لو كانت مصر، وأقوى ــ بالحماية الغربية عسكريا ــ من مجموع الدول العربية. وهذا ما أثبتته الوقائع الميدانية فى حروب1956،1967،1973،كما فى الحرب الإسرائيلية على لبنان فى العام 2000 والتى كانت بالأمر الأمريكى المباشر.

إبقاء الدول العربية، وبينها من لا مبرر لوجوده ولا مقومات تحمى هذا الوجود، فى حالة ضعف سياسى واقتصادى وعسكرى، تفرض عليها اللجوء إلى نوع من الحماية الغربية (الأردن نموذجا) بحيث تكون ــ موضوعيا ــ حليفا لإسرائيل، فأى تهديد جدى لدولة يهود العالم تهديد للكيانات المجاورة. هل من الضرورى التذكير بأن الأردن تحول من إمارة إلى مملكة عندما تم للأمير عبدالله ضم ما عجزت إسرائيل عن احتلاله (أو هى أرجأته) فى العام 1948، من أراضى فلسطين ليغدو ملكا (سنة 1950) فيتحرر من عقدة النقص (تجاه أخيه فيصل ووريثه فى ملك العراق آنذاك)، وليسبغ على نسبه الشريف مزيدا من الوجاهة عبر سدانته للمسجد الأقصى (وقد اغتيل فيه فى العام 1951).

حماية منابع النفط وطرق وصوله إلى «مكتشفيه» ومستثمريه فى الغرب، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بداية، ثم الولايات المتحدة الأمريكية. وليس سرا أن هؤلاء المستثمرين كانوا وراء أول انقلاب عسكرى أطاح بالحياة السياسية وبداياتها الديمقراطية فى سوريا وكانت ذريعته المعلنة الهزيمة أمام إسرائيل فى فلسطين، فى حين أن سببه الفعلى كان يتصل بالنفط وطرق إمداده ووصوله إلى البحر الأبيض المتوسط.. وهو مشروع تكامل فى ما بعد، فأقيمت مصفاة بريطانيا فى طرابلس، لبنان، لنفط العراق، ثم أقيمت مصفاة ثانية أمريكية للنفط السعودى فى محلة الزهرانى، جنوبى لبنان.

وفى حين تم وقف العمل بمصفاة الظهرانى الأمريكية بعد الاحتلال الإسرائيلى لهضبة الجولان وما جاورها من الأرض السورية فى حرب1967، فإن العمل فى المصفاة البريطانية قرب طرابلس قد توقف نتيجة للحرب الأهلية فى لبنان 1975.

بعد حرب العبور 1973، تم القطع الكامل والنهائى برا بين مصر والمشرق العربى بدوله جميعا وصارت إسرائيل الحاجز المانع للتواصل السياسى العملى، وللتباعد النفسى إلى حد الانفصال بل والتضاد فى المصالح بين من كانوا إخوة وشركاء فى مصر.

( للتذكير فقط يمكن الإشارة إلى خط سكة حديد كان يربط مصر ولبنان وسوريا، عبر فلسطين، حتى العام 1948، وطالما استخدمه باشوات مصر وكبار أدبائها وفنانيها للقدوم إلى المشرق، لاسيما لتمضية الصيف فى لبنان)

أما بعد معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل فقد تقطعت معظم الروابط العملية التى كانت قائمة بين مصر ودول المشرق العربى، وصارت إسرائيل، والى حد كبير، طرفا مقررا فى العلاقات العربية ــ العربية.
فلما أقدمت القيادة الفلسطينية على التوقيع على اتفاق أوسلو 1993، وأقامت «سلطتها» داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وبالشروط الإسرائيلى المعلنة، فقد تزايدت الانقسامات العربية وبلغت حدود القطيعة والتصادم، وصارت إسرائيل طرفا مقررا فى العلاقات العربية ــ العربية.

******
تهدف هذه المراجعة المتسرعة لآثار وعد بلفور على الواقع العربى فى ما يتجاوز فلسطين ولا يتوقف عند حدودها، إلى التأكيد على ما ليس بحاجة إلى تأكيد: أن إسرائيل هى العدو فى الماضى والحاضر والمستقبل لكل العرب، بدولهم الغنية والفقيرة كافة، وليس لشعب فلسطين فحسب.

..وإن وعد بلفور ما كان ليتحقق على الأرض، فتقوم دولة إسرائيل على حساب حقوق شعب فلسطين فى أرضه، لو كان «العرب» داخل فلسطين وخارجها، يمتلكون الحد الأدنى من القوة والقدرة على اتخاذ القرار، والأخطر: من الوعى بخطورة ما يدبره الاستعمار لمستقبلهم عبر تمزيق أرضهم دويلات، وعبر زرع الفتنة بين الإخوة وأبناء الوطن الواحد، باستخدام السلطة وامتيازاتها وسيلة إغراء على حساب وحدة الأرض ووحدة أهلها فى مصالحهم وفى تطلعهم إلى مستقبل يلم شتاتهم فى كيان سياسى طبيعى بجغرافيته وبنسيجه البشرى وبقدرته على أن يكون «دولة» بالمعنى الحقيقى للدولة.

وها نحن نشهد تمزق العديد من الكيانات التى أقامها المستعمر فى غفلة من شعوبها، بينما نرى باليقين دولا عربية عدة تعتبر إسرائيل ضمانا لوجودها ومصدر أمان لأنظمتها، فالمشروع الإسرائيلى يتسع بمخاطره ليشمل ما كنا نسميه الوطن العربى الكبير، من المغرب الأقصى إلى اليمن الذى كان سعيدا،

وليس ثمة من فاصل لا بالاستراتيجيات ولا بالمصالح المباشرة بين الأقوى من دول الغرب(بريطانيا فى الماضى والولايات المتحدة الأمريكية اليوم) وبين «دولة يهود العالم» التى زرعت بالقوة فى فلسطين لتفصل بين المشرق العربى والمغرب العربى مما يجعل أمما شتى ودولا مستضعفة يسهل استرهانها وإخضاعها لإرادة الأجنبى الذى نشهد الآن وفى ظل السيادة الأمريكية الكونية التطابق المطلق بينها وبين الكيان الإسرائيلى.

وآخر ما استجد من تأكيدات لهذا التطابق المطلق يتمثل فى انسحاب الإدارة الأمريكية(الجديدة؟) من التعهدات التى كان أطلقها الرئيس الأمريكى باراك أوباما، حول وقف الاستيطان الإسرائيلى فى المساحة التى يفترض أن تترك لإقامة مشروع الدولة الفلسطينية عليها، والتى تكاد تذيبها المستوطنات التى يتعاظم عدد سكانها من المستوطنين المستقدمين من شتى أنحاء العالم على مدار الساعة.. مع إسقاط التعهد بأن يبقى للفلسطينيين من مدينة القدس ما يتسع لعاصمتهم العتيدة.

ولقد أطلقت وزيرة خارجية أوباما رصاصات الرحمة على الحلم الفلسطينى بالدولة، قبل يومين، ومن عاصمة عربية التقت فيها رئيس السلطة البائسة، بإعلانها التراجع عن التعهد بوقف بناء المزيد من المستوطنات، وبتأكيدها أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية أن الاستيطان ليس عقبة فى وجه التفاوض.

والسؤال، فلسطينيا بالأساس، وعربيا بالتالى:

التفاوض على ماذا وقد احتلت إسرائيل، المعززة بالتأييد الأمريكى المفتوح، الأرض والإرادة.

مسكين بلفور، إن وعده بائس قياسا بالإنجاز الأمريكى فى إخضاع العرب جميعا لدولة يهود العالم التى لا تقرر مصير فلسطين وشعبها فحسب، بل المصير العربى فى كل الأرض العربية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved