الثورة بأثر رجعى

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأحد 4 نوفمبر 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

الحقيقة أن الإشارات المتناقضة التى يرسلها أفراد النظام الحاكم هذه الأيام زادت على الحد الذى أصبحنا معه نعجز عن رصدها لكثرتها. فما بالك لمن يريد أن يفهم، ويحلل، ويتفاعل، من المؤكد أن مهمته ستكون أكثر صعوبة.

 

فلم تكد تمر سوى أيام قليلة على تصريح لرئيس الوزراء هشام قنديل فى جريدة الأهرام يؤكد فيه على أن فكرة التصالح مع رموز النظام السابق قائمة، وأن الحكومة ستضع آلية حتى يمكن تطبيقها على أرض الواقع. إلا ووجدنا الدكتور محمد محسوب وزير الدولة للشئون القانونية والبرلمانية يخرج علينا بمانشيت فى ذات الجريدة يقول فيه «الحكومة ترفض التصالح مع الفساد ورموز النظام السابق».

 

وفى نفس اليوم تبشرنا جميع الجرائد بأن أحد المحامين المشهورين فى مجال التعامل مع الحكام الجدد والقدامى، يتنحى عن نظر قضية أحمد عز، المتهم فيها بالإستيلاء على أسهم شركة الدخيلة. ويعلن أن سبب تخليه عن موكله أنه اختلف معه. حيث إن المحامى اتفق أن يجرى تسوية لهذه القضية مع الحكومة (أى يتصالح) بينما المتهم عز يختلف حول هذه التسوية.

 

●●●

 

ولا أعرف بالطبع إذا كان عز يعد من رموز النظام السابق أم لا فى نظر الحكومة الحالية، ولكن هذا الخبر ربما يؤكد ما أشيع ونشر من قبل عن إجراء بعض الاتصالات بين طاقم الدفاع عن أحمد عز، وبين بعض المسئولين فى الحكومة.

 

وبالطبع هذه التصريحات المتناقضة حول التعامل مع قضية التصالح مع الفساد تتيح لكل من يرفض منهج الوقوف فى منطقة الوسط بين الفساد والثورة، أن يهاجم أفراد النظام الحاكم. بل ويعتبر منطقة الوسط هى الانحياز للفساد. والعجيب فى الأمر أن عدم اتخاذ مواقف صارمة ضد التصالح مع الفاسدين، والوقوف فى منطقة الوسط هذه لا تعجب الطرفىن. لا تعجب الفريق الرافض للتصالح، ولا الفريق الآخر من رجال الأعمال وأهل البيزنس المنتظر بفارغ الصبر فتح باب التصالح على مصراعيه دون مواربة.

 

فقد استقبل الفريق الأخير حكم محكمة القضاء الإدارى يوم الثلاثاء الماضى ببطلان عقد استغلال شركة (سنتامين إيجيبت) لمنجم السكرى للذهب بالبحر الأحمر برد فعل عنيف. حيث وصف أحد رموز هؤلاء حكم المحكمة بأنه استكمال لمسلسل الانتحار الاقتصادى الذى تنتهجه الحكومة، والذى سيؤدى إلى تطفيش المستثمرين. أى أن الحكومة المترددة بين التصالح مع أو التناطح ضد الفساد لم ترض فريق المصالحة الذى لا يرضى بديلا عن الوقوف فى صف المستثمرين مهما كان الثمن. وهذا هو بيت القصيد، تتصالح الحكومة من أجل عدم أغضاب المستثمرين.

 

ولنا فى ذلك أمثلة كثيرة. فالحكومة تتغاضى مثلا عن تصرفات مستثمر عربى أخذ منا فندق شيراتون الغردقة منذ ما يقرب من ربع قرن بـ15 مليون دولار. وحصل معه على 80 فدانا، وحق ردم جزء من البحر الأحمر. وأغلق المستثمر الفندق الذى كان يدر دخلا كبيرا، ويسترزق من ورائه أناس قطعت أرزاقهم وذلك لخلافات حول إصراره على ردم جانب من البحر. بعبارة بسيطة مستثمر سعودى اشترى «حته» من أرض، وبحر، ورمل مصر بإتفاق مع حكومة عملت فى ظل نظام فاسد محكوم عليه بالخلع، بحكم نهائى غير قابل للطعن من ملايين المصريين الذين صنعوا ثورة. فيأتى نظام جديد بعد الثورة بدلا من أن يفتح ملف عقد بيع الفندق ويراجعه، ويحاسب من سمح لمستثمر أن يعطل «عجلة» السياحة لعشرين عاما، نجده يعلن التصالح مع المستثمر.

 

●●●

 

هل يعقل أن ثورة انتفض أصحابها ضد كل من باع أرضا لا يملكها لمستثمر لا يستحقها. وضد كل من أقرض أموال البنوك لمليارديرات لم يردوها. وضد كل من باع فندقا، أو شركة، أو مصنعا دون وجه حق لمشتر لم يحافظ على حقوق أهلها. تأتى لهم حكومة بعد الثورة بدلا من أن تتلهف على استرداد شركات الأسمنت والنسيج والكتان والتجارة التى تم خصخصتها، وأعادها القضاة للدولة مرة أخرى نجدها لا هم لها سوى البحث عن مخارج قانونية حتى لا تستردها. وبدلا من أن تجرى الحكومة وراء حيثيات الحكم التى تمتلئ بأسماء الفاسدين وتوجيهات صريحة من القضاة بضرورة ملاحقتهم نجد أنها مازالت تحتفظ بأغلبهم على قمة الجهات الحكومية والعامة.

 

 فاعلموا يا أهل الحكم إن أعلنتم أنكم ستستردون هذه الشركات، وتصلحونها، وتحاسبون من باعها بتراب الفلوس، وأخرج من مصانعها نصف مليون عامل فى عز شبابهم ليجلسوا فى بيوتهم على المعاش المبكر جدا. لو فعلتم ذلك فأنتم تحققون الثورة بحق.

 

ولكن الحقيقة أنه دائما ما تأتى أفعال أصحاب القرار فى سدة الحكم لدينا بما لا يشتهيه المحكومون. فبدلا من أن تتلقف الحكومة حكم محكمة القضاء الإدارى ببطلان عقد منجم السكرى فى محافظة البحر الأحمر الأسبوع الماضى. هذا العقد الذى جاء بمقتضى قانون أصدره رئيس الجمهورية (الذى هو حسنى مبارك) والذى يعطى لهم حقوقا على حساب حقوق المصريين. بدلا من أن تتلقف الحكومة الحكم، وتسارع بالبحث عن مناطق الإجحاف التى اشارت إليها المحكمة. خصوصا أن القاضى ألزم وزارة الصناعة بتعديل العقد. أى أن القاضى أعطى للحكومة سندا قانونيا تستطيع من خلاله إصلاح الفساد فى التعاقد. ولكن لم تسارع الحكومة بالإعلان عن نيتها بتعديل العقد، ولكن فوجئنا بمصدر بمجلس الوزراء يصرح بأن الحكومة «أصيبت بصدمة شديدة من الحكم الذى أتى متزامنا مع المباحثات الجارية حاليا مع صندوق النقد الدولى».

 

فكنا ننتظر من الحكومة أن تعلن عن صدمتها من بنود العقد الجائر الذى حمل توقيع رئيس مصر المخلوع والذى لم يتحمل ضمير القاضى بنوده الظالمة، فنص فى الحيثيات على «أنه يؤسف المحكمة ويؤلمها أن عمليات البحث عن الذهب لم تستفد منها مصر طوال 8 سنوات سوى بـ19 مليون دولار فقط». ووصف القاضى ذلك بالفتات، خصوصا أن منجم السكرى يحصل يوميا على مليون و600 ألف جنيه قيمة السولار المدعم الذى تقدمه له الحكومة طبقا للعقد. وأكد القاضى أن الوزر يقع على الجهة الإدارية التى فرطت فى ثروات مصر.

 

وبينما يتألم القاضى ويؤسفه ما يستنزف من ثروات مصر، نجد أن الحكومة يصدمها أن القاضى أبطل العقد فى وقت ينزل صندوق النقد الدولى ضيفا عليها. ويبدو أن من واجب الضيافة أن تسكت الحكومة على استنزاف ثروات البلد، وهى تجلس على مائدة واحدة مع الصندوق تفاوضه على اقتراض 4.8 مليار دولار. والغريب أن الحكومة تخجل من الصندوق لأن محكمة مصرية قررت أن توقف نزيف أموال الدولة، التى تتدفق على شركة أجنبية، بينما لا تخجل وهى تقترض من الصندوق فى نفس الوقت الذى تقدم فيه هدية سنوية للشركة الأجنبية صاحبة امتياز المنجم تقرب قيمتها من 600 مليون جنيه. وهى قيمة دعم السولار فى العام الواحد. بينما هى تشكو للصندوق ضيق ذات اليد.

 

●●●

 

فمادامت الحكومة تخجل من استرجاع ثروات مصر التى استنزفت بفعل حكام فاسدين، قامت عليهم ثورة طاهرة، فلا سبيل لدينا نحن أصحاب الثروات الحقيقيين إلا استرجاعها. إما بقضاة طاهرين، يتألمون ويتأسفون على ضياع ثروات مصر، وإما نرجعها بإيدينا، فإن لم نستطع فلنطالب بألسنتنا. ولكن الإرجاع بالقلوب وهو أضعف الإيمان فات أوانه بقيام الثورة.

 

 

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved