يكاد الشك يصير يقينا.. الحرب الباردة الثانية مستمرة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 4 نوفمبر 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

قرأت خطاب الرئيس شى الذى ألقاه قبل أسبوعين فى إحدى لجان قيادة الحزب الشيوعى الصينى. يومها ازدادت قناعتى بأن الصين اتخذت قرارها بأن تقابل التصعيد الأمريكى فى المنافسة بينهما بتصعيد ليس أقل حزما. ثم تابعت بالتركيز على السلوك الرسمى للدولتين تجاه بعضهما البعض. رحت أتحسس مواقع التصعيد فى التعامل والتغيير فى مستوى الخطاب السياسى. لفت انتباهى بشكل خاص النشاط المحموم للسيد مايك بومبيو، متنقلا من بلد فى أوروبا إلى بلد فى أعماق إفريقيا إلى بلد فى الخليج حاملا رسائل دبلوماسية لكبار المسئولين فى دول عديدة. لم يقل نصيب التحذير الأمريكى من طموحات الصين فى هذه الرسائل عن نصيب الترويج والابتزاز للتوقيع على اتفاقات تفرض على دول عربية التزامات وعلاقات مع إسرائيل.
***
أكتب هذه السطور قبل إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية بيوم واحد. غدا ينتخبون وبعد أيام ربما يكون لدينا اسم الرئيس الجديد للولايات المتحدة أو تتمدد رئاسة ترامب لولاية ثانية. أقول ربما لأن الرئيس ترامب حذر متوعدا أنه ربما يقرر رفض الاعتراف بالنتائج إن لم ترق له. وفى هذه الحالة قد يلجأ للمحكمة العليا لتصدر أحكاما ضد النتائج المعلنة فى أكثر من ولاية فيعود للبيت الأبيض رئيسا لولاية ثانية وهو الذى لم تتوفر لديه النية أساسا للخروج من هذا البيت إلى قلعته الفاخرة والحصينة فى ولاية فلوريدا. أنا شخصيا أميل إلى الاعتقاد أن الأمر فى سبيله للحسم اليوم أو غدا، أى قبل إجراء الانتخابات وقبل نشر هذا المقال. أظن أن الدولة الأعمق فى الولايات المتحدة لن تواصل الصمت على تجاوزات السياسيين، أظن أنها سوف تبلغ المرشحين بطريقة أو أخرى أنها لن تسمح بتلاعب خطير أو التدخل بوسائل غير عادية لتغيير النتائج أو استخدام القوة للتأثير فى إرادة الناخبين أثناء عملية الانتخاب أو بعدها.
***
هذه المقدمة كانت ضرورية لإبراز خطورة ما هدد به الرئيس ترامب وربما خطط بالفعل لتنفيذه ولم يخفه عن الرأى العام الأمريكى، وفى الوقت نفسه لم يخفه على حلفاء أمريكا وخصومها، وبخاصة على الصين وروسيا. أتصور أن دولا كثيرة ومؤسسات أمريكية بعينها ما كانت لتقبل بوقوع فوضى تهدد أمن واستقرار أمريكا، وتزيد من سرعة انحدار وزن القوة الأمريكية، وتؤثر بالتحديد فى موقع أمريكا فى المنافسة المحتدمة بالفعل بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. هناك أسباب أخرى تدفعنى لتجاوز بعض السياقات الراهنة للدفاع عن رأى له وجاهته. أعرض خلاصة هذا الرأى فى الكلمات القليلة التالية: لن يغير فوز جوزيف بايدين أو دونالد ترامب فى الانتخابات الجارية فى الولايات المتحدة فى القرار الذى اتخذته بالفعل القيادة الحاكمة فى الصين والقاضى بتصعيد وتسريع خطوات المنافسة المشتعلة بين الصين والولايات المتحدة، لا عودة إلى الوراء. لا عودة عن حرب باردة بين الدولتين الأعظم سواء تغيرت وجوه القيادة السياسية الأمريكية أم بقيت. لا شك أن لأصحاب هذا الرأى أسبابهم وأفكارهم ومنها على سبيل المثال وليس الحصر الأسباب والأفكار التالية، هذه وأكثر منها عبرت عنه مواقع أمريكية وأوروبية للبحث والعصف الذهنى خلال الأسابيع القليلة الماضية:
أولا: لا جدال، ونحن شهود، على أن الطرفين، الأمريكى والصينى، بذلا جهدا خارقا خلال العامين الأخيرين وتكلفا ثروات هائلة لتقريب المسافة التى تفصل كلا منهما عن موقع بعينه فى صف قادة العالم، وفى الوقت نفسه إعادة النظر فى جدوى كل الوسائل التى استخدمها الطرفان لتوسيع أو تضييق الفجوة الفاصلة بينهما خلال سعيهما نحو القمة. المؤكد لهما ولنا أنهما قطعا فى هذا السعى أكثر من نصف الطريق ولا جدوى من الحديث عن التوقف أو الرجوع إلى الوراء. لا يستقيم بأى حال وتحت أى ظرف أن يتخاذل الآن قادة الدولتين بعد حملات إعلامية رفعت توقعات الشعبين، توقعات صينية نحو تحقيق حلم كثيرا ما راود قادة الصين ألا وهو احتلال موقع الدولة القائد فى نظام عالمى جديد. أو توقعات أمريكية نحو تجديد حلم الصمود فى وجه طموحات دول منافسة ونواياها وفى مقدمتها الصعود للقمة.
ثانيا، تتشابه الدولتان حيثما تبدوان مختلفتين شديد الاختلاف. يجنح محللون تحت الاقتناع بأن الصين دولة يحكمها نظام سياسى شمولى إلى تصور أن لا مكان فى الصين لقوى أو جماعات ضغط كالموجودة فى الغرب وبخاصة فى الولايات المتحدة. وجدت هذه الجماعات وإن فى أشكال مختلفة فى حياة الرئيس ماو تسى تونج ولعبت أدوارا هامة فى صياغة مسيرة الثورة فى عديد المراحل وبخاصة مرحلة الثورة الثقافية. كثيرا ما بدا لى مثيرا للغاية متابعة حركة رئيس اللجنة المركزية للحزب خلال محاولته الخروج بتوافق عام بين مختلف جماعات الضغط على قضية أو أخرى. بل وهناك اختلافات فى الرؤى يكتشفها المدققون وما أكثرهم الآن. هؤلاء بأعدادهم الراهنة وكفاءة بعضهم يذكروننى بخبراء عرفوا بأخصائى الكرملين فى زمن الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتى.
سمعت أنه بين هؤلاء المدققين على الجانب الصينى من ينصح قادته بأن الصين يجب أن تسرع خطى الصعود قبل أن تكتمل قوة وكفاءة نظرائهم على الجانب الأمريكى. أمثال هؤلاء خلال الحرب الباردة أقنعوا صناع القرار الأمريكى وآخرهم الرئيس رونالد ريجان بضرورة التوسع فى المنافسة مع موسكو وتصعيدها فى مجال أسلحة وسباقات الفضاء، اعتقادا قويا ومحقا أنه مجال لو انغمست فيه القيادة السوفيتية فستخفق حتما وتكسب واشنطون السباق. أتيت بهذا المثال بعد أن تأكدت أن فى أمريكا آراء وجماعات فكرية مماثلة تشير على صناع القرار الأمريكى بتسريع خطط مواجهة صعود الصين. حججهم كثيرا منها مثلا أن الخصم الصينى دخل مبكرا مرحلة شيخوخة نتيجة السياسات السكانية التى انتهجها فى المراحل الأولى من خطة إعادة بناء الصين. قريبا جدا، حسب ما يحسبون، سوف تجد الصين نفسها أمام منافس أمريكى مجرب ومتجدد الشباب والطموح وستكون له الغلبة فى السباق المنشود كما كانت له الغلبة فى الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتى.
ثالثا: كثيرون على هذا الجانب أو ذاك يعطون المنحى الثقافى فى السباق أهمية خاصة. هذا السباق أو الصراع أو التنافس هو الأول من نوعه، هذا إذا استبعدنا المحاولتين البائستين من جانب اليابان لتفرض نفسها على مجتمع الدول المهيمنة، مرة مع روسيا وانتصرت ومرة مع الغرب بأسره وانهزمت. لم يغفر الغرب لليابان فعلتها فكان عقابه لها شديدا، اعتبر أن ما فعلته اليابان كان تجربة أولى نحو افتعال «صدام حضارى» هدفه إخراج الغرب من آسيا. منذ تلك المرة عاش الجميع، آسيويون وغربيون ينتظرون الصدام الأكبر. كم سمعنا وقرأنا فى الغرب عن مصير البشر فى مستقبل تستيقظ فيه الصين.
ما لم نقدره حتى الآن حق قدره هو الوزن الحقيقى للثورة الصينية وما خلفته من آثار فى مختلف أقاليم القارة الآسيوية. يكفى أن نقارن بين نظرة الآسيويين إلى التجربة السياسية الصينية والتجربة السياسية الهندية، إعجاب بالأولى ولا مبالاة بالثانية. لاحظ أن الهند وقد بنت سمعتها بين الأمم وعبر تاريخها منذ الاستقلال على عقيدة غربية ومؤسسات حكم وإدارة غربية، فجأة انتبهت فراحت تستعيد فلسفاتها الآسيوية وتبث الروح فى تقاليد الهندوسية ديانة وفكرا وسياسة وبطولات ونساء وموسيقى. إنه السباق الأكبر القادم فى القارة، أيهما أصلح لآسيا: ثقافة الغرب أم ثقافات هجين أم ثقافاتها الآسيوية. وهل تستمر أسس ثقافة الغرب فى «التضعضع» أم يتوقف الانحدار وتنهض من جديد؟ أسئلة لن تجد إجابة شافية إلا من قوم هم الأقدر والأسرع فى التأقلم مع زحف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى واستيعاب قواعد وسلوكيات عصر جديد.
رابعا: يعرب علماء سياسة غربيون عن اعتقاد بدأ يسود ويقضى بأن بعض حلفاء أمريكا فقدوا الثقة فى قدرة الولايات المتحدة على قيادة معسكر الغرب فى المستقبل. تكاد خطابات أمين عام حلف الناتو تشى بأن هذه المقولة لها ما يبررها على أرض الواقع. فى رأى الكثيرين أن ترامب وهو «كبير الحلف» مسئول إلى حد كبير. لم يتدخل فى حل الخلافات الثنائية بين دول الحلف بل أضاف إلى الشقاقات الأوروبية أسبابا إضافية وتوترات نتيجة استمرار هجومه على الحلف وأعضائه. هنا كما فى قضايا أخرى احتار الأوروبيون، والآسيويون أيضا والروس كذلك فى الإجابة على سؤال محورى، هل أمريكا الآن، وبقياداتها السياسية الراهنة فاقدة القدرة على التأثير لدوافع هيكلية أم نتيجة منطقية لتصرفات الرئيس ترامب وسياساته الخارجية. عدد من مفكرى آسيا، وبخاصة من سنغافورة يعتقدون أن الطبقة السياسية الأمريكية أصابها ما أصاب قادة الإمبراطوريات التاريخية فى مراحل نهاياتها.
خامسا: فى كل الأحوال، وأخذا فى الاعتبار جميع الإجابات والمواقف، يكاد يكون من المسلم به أن الوقت تأخر، فالصين تمسكنت حتى بالفعل تمكنت. الشهادة المقنعة فى هذا الشأن هو فيما سجله السيد جفرى فيلتمان Jeffrey D. Feltman المدير السابق للإدارة السياسية فى الأمم المتحدة والسفير الأسبق لدى لبنان فى مقال نشر له أخيرا. يتضمن المقال معلومات هامة عن حجم ونوع التغيير فى النظام الدولى الذى تسعى الصين لتحقيقه. قدم مثالا عما يحدث الآن فى التعيينات للوظائف الأساسية فى المنظمة الدولية ووكالاتها المتخصصة من ناحية وفى سن وتسريب قواعد جديدة للسلوك ومبادئ العمل الدولى من ناحية أخرى.
***
يحدث ما يحدث فى أمريكا عامة وفى البيت الأبيض بخاصة بعد إعلان النتائج، سوف تتغير أمور كثيرة أو قليلة، ولكن يكاد يبقى فى حكم اليقين أن حرب أمريكا الباردة مع الصين سوف تستأنف على الفور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved