بينَ استجابةٍ وأُخرى

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 4 ديسمبر 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

في الأسبوعِ الماضي قام عشراتُ الآلاف من المُواطنين الفرنسيين بالخروجِ إلى الشوارع، احتجاجًا على سَنّ قانونٍ جديد يتعلق بأفراد الشُّرطة. يمنع القانونُ نشرَ صوَرٍ لأي شُرطي أثناء تأديةِ عملِه، وتلك هي الوسيلة التي فضحَت مؤخرًا انتهاكاتٍ مُتعددة بحقِّ أشخاصٍ أوقفتهم الشُّرطةُ الفرنسيةُ، وتعدَّت عليهم بقسوةٍ غير مُبرَّرة، مُتجاوِزةً الحدود المُباحة وغير المُباحة. بعضُ الوقائعِ جرت بحقِّ مواطنين مُلوني البشرة، وبعضُها الآخر مُورِس ضدَّ مُهاجرين.
***
تَحَوَّل العنفُ المُرتكَب من قِبَل الشُّرطةُ في بقاعٍ شتَّى؛ إلى أمرٍ معتاد لا استثنائيّ. إنكاره أو غضُّ البصرِ عنه سلوك مُتوقَّع تتبعه الأنظمةُ القمعية؛ أما أن يخرجَ من بلدِ الحُرية قانونٌ يحمي الانتهاكاتِ، ويرعاها، ويسمح بازدهارِها ففِعلٌ مُدهش.
***
أفصح الرئيسُ الفرنسيّ مِرارًا عن هُويتِه المُحافظة، ويمينيتِه التي أمكن مع مرورِ الوقت وصفها بالفاشية. هو كقُرناء له في مناصبِ الحكمِ ؛ لا يحبُ المُهاجرين، ولا يتعاطف مع اللاجئين، ويحمي الحرياتِ انتقاءً لا إجمالًا؛ فيُنعِم بها على نفرٍ من الناس ويحجِبها عن آخرين.
***
قدَّرت وسائلُ الإعلامِ عددَ المُتظاهرين في أنحاءِ فرنسا بنصفِ مليون مُتظاهر؛ ماجت العاصمةُ العريقةُ صاحبةُ الباعِ الطويل في أعمالِ المُقاومةِ؛ بحشودِ الرافضين للسياساتِ المُهينة، الحريصين على الاحتفاظِ بحقوقِهم في المَعرفةِ والنقدِ والمُحاسبة، وعدم الانجرافِ وراءَ مَوجةٍ مِن الرجعيةِ تجتاح العالم. لم تتخلف المُدن الكبرى عن الاعتراضِ الصارخِ على القانون، فقد بقيت خطوةٌ على إقرارِه مِن قِبَل مَجلس الشيوخ، والحقُّ أن قانونًا مثل هذا لعار على أيّ حكومةٍ تدعي صَونَ مبادئ العدالةِ وإعلاءِ القيمِ الإنسانية.
***
مُنذ سنواتٍ خَلَت، شهدنا حدثًا شبيهًا في بداياته، نقيضًا في مآلاته؛ إذ بعض راحت أقسامُ الشُّرطة المِصرية تصادر أجهزةَ المَحمول مِن قاصديها، بعدما نشَرت مَواقِع التواصُل الاجتماعيةِ مَقاطع مُصوَّرة لأعمالِ عنفٍ ، تعرَّض لها مُواطنون.
***
لا يُغفَل والحديث عن عُنفٍ سُلطوِيّ تتشكَّل في معيته خصائصُ المنهجيةِ، أن الرئيسَ الأمريكيّ الخاسرَ في الانتخاباتِ الأخيرةِ، قد دشَّن عهدًا متفوقًا من عنفِ الشُّرطةِ العنصريّ؛ ضدَّ المواطنين السود. وجَدَ ميلُه المُشين صدى لدى جماعاتٍ تحملُ أفكارَه نفسَها وتتبنَّى شطاتَه وتُعَدِد مَناقبه؛ لكنه وجدَ أيضًا مُعارضاتٍ هائلةً تعري مَساوِئَه، وحركاتٍ ضخْمة تُناهِضه، وتجمُّعات ترفع شعاراتٍ حارقة؛ تندِّد بحماقاتِه وتجُول العالم.
***
ثمَّة دولٌ هدمت أعمدتها الأخلاقية وجَرَت فيها المعاولُ؛ صاغت مِن جديد كثيرَ المَبادئ والقوانينِ التي عُدَّت مُنصِفةً، وتلاعبت بالمفاهيمِ التي لاحت في الأرضِ مُتجذِّرة، ثم صنعَت تعريفاتٍ جديدةً براقةً؛ لكنها زائفة، وأقحمتها في الذاكرةِ الشعبيَّةِ دون أن يُحرِك فعيلُها ساكنًا.
***
الفارقُ بين الفرنسيين والأمريكيين مِن ناحيةٍ، وشُعوب أخرى مِن ناحيةٍ مُقابلة؛ أن أُسُسًا قامَت عليها الدولتان لا تزالُ مَتينةً في الوعي، حاضرةً في الذاكِرة، لا يجرؤ حاكمٌ على دكِّها، وإن جرؤَ فالشعب له أيضًا كلمته وله في التعبير عنها أدواتٌ شتّى.
***
الظنُّ أن الناسَ قادرون ما توافقوا وتماسكوا على الحدِّ من صلاحياتٍ مُفرِطة وسُلطةٍ مُستوحِشة، هم أيضًا قادرون على حماية الخطوطِ العريضةِ التي ارتضوها ناموسًا لحيواتهم، والتي لا يُمكِن أن تصبحَ يومًا مَحلَّ تفاوُضٍ أو مُنازَعة .
***
وسَطَ إظلامٍ يغمُر المنطقةَ بأسرِها، ثمَّة أضواءٌ تأتي مِن هنا وهناك، لتؤكدَ أن البشرَ في بعضِ البقاعِ ما فتأوا أحياءً يَسعون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved