يُحْكَى أنّ.. وقصصٌ أُخرى فى السياسات العربية الإسرائيلية

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 4 ديسمبر 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

يُحْكى أن مشروعا استعماريا استيطانيا قام غصبا فى قلب الوطن العربى ــ فلسطين ــ عام 1948، ولكنه وجد أمامه من بعد قيامه صخرة صلبة صلدة ممثلة فى مصر العربية وقد قامت على أرضها ثورة، يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952، بدأت بحركة (مباركة) للجيش، وشرعت فى تمامها عبر مراحل متدرجة وخطوات واثقة، وإن واجهتها فى عديد الأحايين عثرات ثقال.
وضع المشروع الكيانى (ذلك الصهيونى) نصب عينيه هدفا ثابتا، أن يعرقل خطى الحركة الثورية الناشئة فى مصر العربية، نواة مثمرة لحركة للتحرر الوطنى ــ القومى على الامتداد العربى العميق، من حولها شرقا وغربا وجنوبا. وعَمَد (الكيان) إلى ضربها بطرق متنوعة، وجها لوجه، عبر سلسلة من المواجهات المباشرة، بدأت بالغارة الإسرائيلية على غزة مساء 28 فبراير من عام 1955، وأخذت قسماتها الكالحة فى بورسعيد عام 1956 (العدوان الثلاثى بالاشتراك مع قطبى «القارة العجوز» بريطانيا وفرنسا)، وما لبث الكيان الصهيونى أن عاجل مصر الثورية (بنجاحاتها الجلية وعثراتها الثقال) بضربة مباغتة هجومية الطابع، على المطارات الحربية المصرية صبيحة الخامس من يونيو / حزيران 1967 عدوانا موصوفا، وأعقب الضربة انسحاب (كيفى) غير منظم للقوات المصرية من صحراء شبه جزيرة سيناء، بعد نزع الغطاء الجوى عنها بعد ما حدث، فأسموها حرب يونيو أو حزيران..! وأُطلق عليها تعبير ذائع، «النكسة»، تعبير ذو دلالة سلبية أكيدة، جاء فى لحظة معينة، على لسان القائد فى (خطاب التنحى) الشهير أمسية التاسع من يونيو مباشرة، ربما لتوصيف الواقع اللحظى المأساوى آنذاك شحذا للهمم. وما لبثت أن (التصقت) التسمية بالعمل العربى سلبا لعشرات السنين، حتى الآن، برغم تجاوزها غير مرة. ولكن تلاعبت بها شرائح من النُخَب العربية تلاعبا، ربما لتبرر سلبيتها القائمة مع شىء من «الانهزامية» المزمنة. وما هى إلا أيام أو عدة أسابيع حتى نشب مسلسل المعارك العربية ــ المصرية المجيدة لبضع سنين، بدء بمعركة «رأس العش» قرب (بور فؤاد) يوم 1 يوليو 1967 حينما قامت «قوة الصاعقة» المصرية بالمنازلة البطولية لمحاولة احتلال الموقع من طرف المدرعات الإسرائيلية المهاجمة. على ذلك بدأت (حرب الاستنزاف) على مدى أربع سنوات (1967 ــ 1970)، وفى غمار حرب الاستنزاف تم إعداد العدة لحرب دفاعية كاملة بدء بالتسليح وإعادة بناء الهيكل البشرى للقوات المسلحة من المقاتلين «المؤهلين»، انتهاء بوضع خطة عبور المانع المائى لقناة السويس (الخطة جرانيت 1)؛ كل ذلك أثناء حياة جمال عبدالناصر وحتى قُبيْل الوفاة عام 1970. وقد خيضت الحرب بالفعل، بعد ذلك، يوم السادس من أكتوبر 1973. وبعد 1974 حاولت إسرائيل أن تأخذ فى ظرف (السلام) ما لم تستطع أخذه فى ظرف الحرب، وشرعت فى مداورة ومناورة الدبلوماسية والإعلام والدعاية الخالصة. وهكذا كان، طوال عشرات السنين فى (حقبة السادات ــ مبارك) المتطاولة، حتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
ولما قام الإرهاب الداعشى فى سيناء لخمس سنين على الأقل (2014 ــ 2019)، كان للكيان دور خفى، خلال مواجهة متعددة الرءوس والأبعاد، مستثمرا فى ذلك، الواقع المفروض فى سيناء بمقتضى (معاهدة السلام) لعام 1979 من حيث وضع شرائح أو مناطق متتابعة تبعا لمدى التسليح المفترض. رغم ذلك، ويدها كانت مغلولة من قبل، إلى حد، كان لمصر ما أرادته من التسليح اللازم فى مواجهة الإرهاب الداعشى؛ فى محاولة مضنية لتعويض القصور الناجم عن أحكام «معاهدة السلام».
***
بالتوازى مع ذلك، وبالتزامن مع ما يشبه «فض الاشتباك» مع الجانب الإسرائيلى بعد التخلص من التهديد الرئيسى للإرهاب الداعشى نحو 2019، لم يعد لدى الكيان من ورقة يستطيع محاولة استعمالها فى مواجهة الجانب المصرى، فتحررت اليد المصرية على سيناء إلى أبعد حد ممكن.
حاولت مصر بعد ذلك الاستفادة من اكتشافات الغاز الخاص بها، قبالة الشاطئ المتوسطى، عبر تأسيس «منتدى الغاز لشرق المتوسط»، على أن تكون مصر بمثابة «مركز لوجيستى إقليمى للغاز» بين أعضاء المنتدى على الجانب الأوسطى ــ المتوسطى، بالمشاركة بعد ذلك مع قبرص واليونان، قبالة تركيا من الزاوية الاستراتيجية. ولم لا نقول أيضا قبالة إيران حيث تصعيد التنافس على الطرف الأقصى للخليج قريبا من العراق، بل وبالقرب من حليف خليجى لتركيا هناك؟ وكان الغرض المصرى أن يقوم المركز الإقليمى اللوجيستى للغاز، بتجميع وإسالة الغاز الطبيعى ونقله وبيعه فى الأسواق الأوروبية والمتوسطية منها بالذات. ولكن إذا بالطرف الإسرائيلى فى الفترة الأخيرة أخذ، فيما يبدو لنا، ينأى ويُعرِض بجانبه، من وجهة نظرنا.
ولما لم تعد ثمة حاجة فيما يبدو لنوع من «الشركة» أو «الشراكة» مع مصر من وجهة النظر الإسرائيلية، فقد تلفتت إسرائيل باحثة عن شريك أو شركاء فى معركة تراها حاسمة ضد عدو لها بالذات، عدو حال ومفترَض معا، على رقعة الصراع الشرق ــ أوسطى بأوْجُهِه الاستراتيجية والعقائدية، والاقتصادية أيضا (من بوابة النفط والغاز). هذا العدو هو إيران. إيران الثورة «الخوميْنية» منذ 1979 بعد إطاحة الشاه بيْدق أمريكا والصهيونية العالمية. تلك إيران التى برزت من بعد حروب الخليج الثلاثة فى الثمانينيات والتسعينيات ومطلع القرن الجديد، قوة عسكرية ونفطية يُحْسب لها أكثر من حساب، وخاصة من بعد إزاحة العراق بفعل الغزو الأمريكى للعراق 2003 وتداعياته الكارثية، وحلول إيران فيه إلى حد معين، بتفاهم ضمنى أو صريح مع أصحاب الحول والطول فيه داخليا وخارجيا. بل وبرزت إيران مشروع قوة نووية أيضا، سلمية بالفعل ربما، وحربية بالإمكان ولو على المدى البعيد، مع نوع من الاعتراف الجزئى بهذا الواقع بمقتضى «الصفقة» الدولية ــ الأمريكية لعام 2015 التى اشتملت على ضمان سلمية البرنامج النووى الإيرانى مقابل رفع العقوبات الدولية والأمريكية على إيران. وذلك مما يهدد بكسر الاحتكار الإسرائيلى للقدرة التكنولوجية النووية على كامل الرقعة.. وما أدراك بذلك..!
***
وما بالك لو عرفت أن إيران تحاول أن تصير قوة إقليمية كبيرة، إلى جانب تركيا على طرف مقابل، والتى تتدخل واجهتها الرسمية بجرأة تحسد عليها (أكاد أقول بغير احتراس وحذر) من أجل اقتسام سوريا باقتطاع شطر غنى منها، وفرض ما يشبه منطقة نفوذ شمال العراق، بل وقسمة ليبيا، وكذا اقتناص مناطق من مكتنزات الغاز شرق المتوسط.
تستثمر إيران من جهتها، ظروف الواقع السياسى والديموغرافى المعقد فى الإقليم وتفاعلاته، خاصة بعد 2011، والتدخلات الأمريكية ــ الإسرائيلية وبعض الأطراف الخليجية، فى سوريا بالذات، وكذا لبنان (مما قد يفسر ظاهرة «حزب الله»)، بل وكذلك فى ليبيا أيضا. ومستثمرة (إيران دائما) فى واقع فسيفساء الحالة السياسية، وخرائط الانتماءات «دون ــ القومية» من طائفية وغيرها، فى بلدان عربية عدة، ربما من أبرزها أخيرا: اليمن.
وعلى الرغم من الدعم غير المحدود الذى قدمه الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب إلى (الكيان) من أجل «شرعنة» ابتلاع الأرض الفلسطينية والجولان السورية، إلا أن شراسة الصراع الإقليمى متعدد الأوجه والرءوس على رقعة الأوسط والمتوسط، قد كشفت الطبيعة القزمية لذلك الكيان فى ميزان التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا جميعا. وإذا بالكيان وهو يتلمظ جوعا وعطشا، يجد من أمامه فرائس مقدمة كقرابين إلى الإدارة الأمريكية فى عهدة «ترامب» بالذات، بعد محاولة عبثية لاستبعاد مصر من دائرة النفوذ الإقليمى، وأبرزها فريستان. الفريسة الأولى كبيرة الحجم ثقيلة الوزن، يتحرك فى فضائها الواسع العظيم طموح ذو طابع فردى، للأسف،. طموح غير مبرر كأنه فى المنام، للمشاركة من موقع قوة فى لعبة الهيمنة الإقليمية»، وخاصة بغرض مواجهة من يعترض هذا الطموح فى أكثر من نقطة من نقاط المتصل الجغرا ــ سياسى فى غرب آسيا بالذات، مثل إيران. والثانية فريسة أصغر من حيث الحجم، ولكن ثقيلة من حيث الوزن المالى والاستخبارى، وربما العسكرى إلى حد ما.
وبناء على ذلك الطموح وتلك الأوهام، يتم نسج علاقة ملتبسة مع (الكيان). يقوم هذا الكيان برسمها ويسعى إلى إنفاذها لا يلوى على شىء، طامحا ومتوهما، من جانبه البائس، التأسيس لنوع من (الصهيونية العربية ــ الإسلامية) لا قدر الله. محاولة مستحيلة على كل حال، كما هو واضح للعيان. فمن هو ذلك الذى يستطيع محو العروبة والإسلام المؤتلف مع المسيحية الشرقية العتيدة؟ ومن يستطيع محو التاريخ والجغرافيا..؟
وإن غدا لناظره قريب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved