كونشيرتو البيانو لشوبان

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 4 ديسمبر 2021 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

عيون شاخصة تحملق فى سقف المسرح القديم وكأنها تنظر إلى السماء حتى يأتى دورها فى العزف. تشبه أفروديت وقد حملها كونشيرتو البيانو رقم 1 لشوبان بعيدا. مع بداية المقدمة الموسيقية القصيرة للمقطوعة التى تؤديها الأوركسترا يتحرر جسدها، تتحول هى نفسها أمام البيانو إلى أداة موسيقية شجية تستحوذ على كل المشاعر. تتسلل رائحة عطرها الناعم إلى بعض الحضور، تفوح مع الموسيقى. تسمع صوت أنفاسها تتردد بشكل منتظم وهى جالسة بفستان أخضر غامق من الحرير له أكمام طويلة. تلمس أصابع البيانو بلطف وكأنها تطير على سطح بحيرة وقد اكتسبت خفة وعمقا مع السن.
العزف المنفرد على البيانو لدى شوبان يعطى انطباعا أنه سرد ارتجالى شديد الحساسية، يروى قصة حب حزينة وهادئة، وكأنه يلقى نظرة أخيرة على مكان شهد العديد من الذكريات. عندما كتب هذا الكونشيرتو وأهداه إلى كونستانس، الفتاة التى أحب خلال تعلمها الغناء فى الكونسرفتوار، كان يشعر على الأرجح أنه سيغادر مدينة وارسو بعد فترة وجيزة ودون رجعة، فقد عزف المقطوعة لأول مرة أمام الجمهور بحفل الوداع فى الحادى عشر من أكتوبر لعام 1830، ورحل إلى فيينا مع اندلاع انتفاضة نوفمبر ضد حكم الإمبراطورية الروسية فى بولندا، وبعدها انتقل إلى باريس حيث عاش حتى وفاته. فى أحيان كثيرة تلتقى حياة المؤلف بحياة العازف أو أحد الموجودين فى القاعة، بلحظة معينة يصبح للمقطوعة وقع مختلف، تكون الموسيقى هنا بطعم الكرز المنسى، وهو ما حدث مع عازفة البيانو المعروفة هذه الليلة. أتحدت مع آلتها كالعادة فهى ونيسها الأول وعلى ما يبدو الأخير. انتهت للتو قصتها مع حبيب أنانى يشبهها فى أنانيتها، فقد تشاركا فى هذه الصفة وظنت أنه يمكنهما أن يعيشا أنانية مقسومة على اثنين. نجحا فى ذلك بعض الوقت، لكن فى نهاية المطاف لم يتوصلا إلى تسويات عادلة، إلى مساحة من التنازل والتوافق تسمح بالاستمرار.
•••
تعرف أنها أنانية، وتبدو أحيانا وحيدة عنيدة ومثيرة للغيظ بصحبة البيانو، لكن شريكها السابق كان يرفض الاعتراف بنصيبه من الأنانية المفرطة. أحب فيها شهرتها وانتشارها والجو العام الذى توفره له، فبحكم تمحوره حول ذاته كل العلاقات يجب أن تصب فى مصلحته، أن تأتيه بمنفعة أو متعة أو جاه. مع تدفق موسيقى الكونشيرتو تتذكر مقاطع الظلال والضياء على قامته، بعدما أسدلت الستار وظل فقط نور الممر الشاحب يزيده غموضا. تحن للحظاتهما الجميلة معا، لكنها تعى تماما أنه لم يعد للقصة بقية. تثب إلى رأسها وهى تعزف صورتهما حين كانت تروى له كيف قضت نهارها وحلمها أن ينطلقا معا فيقاطعها مشغولا بالكلام عن نفسه. مثل الأطفال التى لا تكبر أبدا لا يعطى مجالا لوجود الآخرين، ولا يمكن أن يراعى ظروفهم أو يتفهم منطقهم، فقط يريد تلبية احتياجاته، هى لديها ميل شديد لهذا أيضا لكنها كسرت حدة الأنانية بالموسيقى.
شحب لونها وأوشكت على البكاء فصار عزفها أحلى وأحلى. هى ليست زجاجا سهل الكسر، الموسيقى تعطيها قوة، ظهرها يظل مفرودا حتى وهى تتمايل يمينا وشمالا مع اللحن، هكذا كانت دوما وستظل حريصة على استقلاليتها. حين توقفت مرتين عن العزف بإرادتها خلال حياتها المهنية، لم يستطع أحد ملاحقتها لإخلالها بعقدها معه، لأنها لم توقع قط التزاما مكتوبا. وحين اعتلت صحتها بسبب التدخين، استغنت عن السيجارة ببساطة رغم حبها لها.
•••
تتسارع أصابعها على البيانو، الأوركسترا ينضم إليها ليتابع الحركة الثالثة والأخيرة من الكونشيرتو مع قالب الروندو البديع الذى استلهم شوبان نغماته من رقصة شعبية بولندية، قبل أن يعود إلى جملته الأساسية المغرقة فى الرومانسية. مع العزف ينحسر فستانها قليلا عن الركبة، لا تنتبه إليه بل تفكر فى نفسها حين عزفت المقطوعة نفسها فى سبعينيات القرن الفائت. مشهد الموسيقيين والموسيقيات من حولها لم يعد هو ذاته، رغم أنهم اتشحوا جميعا بالسواد وارتدوا بدلاتهم الرسمية وفساتينهم الكلاسيكية، إلا أن قصات الشعر وأشكال النظارات تدل على أن سنوات كثيرة مضت. كانت شابة يافعة بشعر أسود منسدل على ظهرها وفستان وردى طويل. أصابعها أشد صرامة مع البيانو تريد أن تلفت الانتباه إلى موهبتها، مع الوقت خفت حركاتها على المسرح، صارت تكاد تلمس الآلة وتهب ما بداخلها بسلاسة دون حاجة للاستعراض. تهمس النغمات همسا وتسترجع ما مر بها. تزوجت ثلاث مرات. هربت من ضجيج المدن. تشبثت بحدسها الذى قلما يخطئ، بعاداتها الأثيرة: تنام متأخرة عند بزوغ النهار وتلعب على البيانو طوال الليل، بعد أن تتحاور مع المحبين والأصدقاء من خلال مدونتها الخاصة. هزمت السرطان حين ظهر أول مرة. استوعبت أنانيتها ونرجسية الفنان فيها. حاولت عبثا الابتعاد عن كل ما يؤذيها، إلا أنها كانت دوما تعود إلى حبيبها السابق مهما يدمى قلبها. وأخيرا قررت الانسحاب. انقضت لحظات الجنون. لم تعد تحتمل رؤيته وهو يحدق فى البنات الصغيرات بملابسهن اللامعة. لا تشعر بأى رغبة فى الاعتذار عن ما قالته فى ساعة غضب، فقد أرادت كل كلمة وملت القيام بدور المستمع الجيد. مثل شوبان سترحل بغير عودة. لذا موسيقاه الليلة كانت بطعم الكرز المنسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved