سعوديون وإيرانيون: النمر والدومينو

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الثلاثاء 5 يناير 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

لكل أزمة سياقها وتداعياتها وحدودها.
فلا أزمة بلا سياق يحكمها وتداعيات تترتب عليها وخطوط حمراء تقف عندها.
لم يكن إعدام الداعية الشيعى المثير للجدل «نمر باقر النمر» جوهر الأزمة السعودية الإيرانية الجديدة ولا محركها الأساسى فى التصعيد إلى مستويات غير مسبوقة.
التصعيد مظهر عصبى للأزمة لا الأزمة نفسها واستعراض قوة ونفوذ فى لحظة تتقرر بعدها الأوزان لسنوات طويلة مقبلة.
هناك تنازع سعودى إيرانى فى ملفات ملغمة واحتقانات بالقرب من تسويات مراوغة وهواجس متبادلة على صورة الإقليم التى توشك أن تعلن عن نفسها.
فى كل أزمات الإقليم تقريبا يتبدى التنازع وبعضه أقرب إلى حروب غير مباشرة بين البلدين.
قد يقال إن إعدام «النمر» شأن داخلى سعودى لا يحق لأحد الاحتجاج عليه.
غير أن حقائق العالم الجديدة تضع قيودا صارمة على مثل هذا الكلام.
لم يعد هناك ما يسمى بـ«الشأن الداخلى» فيما يتعلق بالحريات العامة وملفات حقوق الإنسان والإعدامات السياسية.
بغض النظر عن الأسباب الإيرانية المذهبية فى الاحتجاج فإن أحدا فى العالم لم يتقبل وصف «النمر» بالإرهابى ولا الإقدام على إعدامه.
السؤال الأكثر جوهرية: لماذا أعدمته السعودية الآن فيما كان يمكنها التأجيل والمساومة السياسية بورقته فى مفاوضات لم تكن مستبعدة مع إيران؟
بصورة أو أخرى كانت هذه رسالة مقصودة فى توقيتها.
حيث راهنت الرياض على صون حدودها عند خاصرتها الجنوبية فى اليمن قبل التوصل إلى تسوية سياسية وفق المرجعيات المعتمدة عملت طهران على استنزاف أعصابها بخرق حلفائها الحوثيين المتكرر للهدنة وعدم الالتزام بمقتضياتها.
فى الاستنزاف العصبى للسعودية قبل الدخول إلى أية تسوية محتملة فى الملف السورى سعى لشىء من المقايضة.
مرونة سعودية أكبر فى الملف السورى مقابل خفض الضغوط عليها عند حدودها اليمنية.
غير أن اللعبة أفلتت حساباتها وتبدت الانكشافات فادحة على الجانبين.
لم يكن بوسع السعودية فرض كلمتها بإشارة فى الهواء بعد الاعتداء على بعثاتها الدبلوماسية فى طهران ومشهد، فثلاث دول من مجلس التعاون الخليجى، الكويت وقطر وسلطنة عمان، لم تماشيها فى قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، فلكل دولة حساباتها، والإمارات اكتفت بتخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسى، وهذا إجراء حصيف بالنظر إلى تعقيدات الموقف كله.
بذات القدر لم يكن بوسع إيران أن يتمدد نفوذها بغير روادع وخسارات فى صورتها.
يمكن تفهم الأسباب الإيرانية فى الاحتجاج على إعدام «النمر» غير أن الاعتداءات على البعثات الدبلوماسية السعودية خطأ لا يغتفر بأى نظر للقانون الدولى وقواعده الصارمة.
لا يوجد أحد فى العالم مستعد لتقبل أية تبريرات غير مقنعة من السلطات الإيرانية تقول بعدم مسئوليتها عن تلك الاعتداءات.
فى انفلات ردات الفعل تجلت مخاوف من تمدد للاستقطاب المذهبى يصب زيتا جديدا على النيران المشتعلة.
المظاهرات الاحتجاجية فى المنطقة الشرقية التى تقطنها أغلبية شيعية انذار مبكر بتداعيات محتملة تأخذ من السعودية وحدتها وتفسح المجال لتمزيق خرائطها ما لم ينضبط الخطاب على لغة أخرى وتستقيم السياسات مع ضرورات إطفاء النيران فى الإقليم كله.
والاعتداءات التى طالت مساجد للسنة فى العراق إنذار آخر بتفاقم الصراعات المذهبية التى أخذت من العراق وحدته وسلامته وأمنه فى لحظة تقدم على حساب «داعش» فى الرمادى.
هناك احتمال أن يتوقف زخم التقدم على مذبح النزاعات المذهبية وضخ دماء جديدة فى شرايين «داعش».
وفى التداعيات احتمالات أخرى لتعطيل تسوية الأزمتين اليمنية والسورية ووضع المصير اللبنانى على حافة الانزلاق إلى الاحتراب الأهلى.
ذلك كله دعا القوى الدولية الكبرى إلى طلب وقف التصعيد خشية أن يفضى إلى إرباك المشهد الإقليمى بألعاب «الدومينو».
يسقط حجر فيؤدى ذلك إلى سقوط أحجار أخرى فى مسلسل لا يمكن إيقافه.
على رقعة الإقليم لا يمكن إنكار الدور المحورى للسعودية وإيران غير أنهما ليسا كل اللاعبين ولا يحوذان كل النفوذ.
الإقليم أكثر تنوعا وتعقيدا من أن تستقر أوضاعه بغلبة السلاح والحساب المذهبى.
الاستفراد بالإقليم وهم مطلق والاستقطاب المذهبى عنوان تراجع لأى دور.
رغم كل تصعيد فللحقائق الكلمة الأخيرة فى أزمة «النمر» وتداعياتها.
لا السعودية يمكن الاستغناء عنها ولا إيران يمكن استبعادها.
أى كلام آخر يناقض المصالح الاستراتيجية العليا وحسابات التاريخ والجغرافيا والثقافة فى أكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنيران.
رغم الحملات المتبادلة فإن لها أسقفا لا تتجاوزها.
واشنطن تطلب التهدئة وموسكو تعرض الوساطة.
لا يوجد أحد فى الاتحاد الأوروبى مستعد أن يراهن على تقويض فرص تسوية الأزمة السورية التى ينظر إليها باعتبارها مركز الإرهاب الدولى ومستوطن تنظيم «داعش».
تسوية الأزمة السورية قرار دولى شبه نهائى، قد يتعطل بعض الوقت لكن استحقاقاته لا يمكن حذفها.
بكلام آخر غير مسموح دوليا التفريط فى «تفاهمات فيينا» على أبواب حوار متوقع وفق خطة معلنة بين نظام الرئيس السورى الحالى «بشار الأسد» ومعارضيه للتوصل إلى حكومة انتقالية.
الإيرانيون يؤيدون «الأسد» بدعم روسى والسعوديون يحتضنون المعارضة المسلحة بشراكة مع تركيا.
فى التعقيدات القاهرة أقرب إلى موسكو والرياض أقرب إلى أنقرة.
لهذا السبب لجأت السعودية إلى إعلان تحالف استراتيجى مع تركيا على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية تحت عباءة مجلس التعاون الخليجى دون أن تتخذ خطوة مماثلة مع حليفها المصرى.
رغم ذلك أخذت أنقرة مسافة كبيرة نسبيا عن الموقف السعودى فى أزمة «النمر» وتداعياتها.
فلم تبادر باتخاذ أية إجراءات ومواقف تناهض إيران انتظارا لتدخلات دولية متوقعة تضع حدا للأزمة.
السعوديون لا يستبعدون من حيث المبدأ فكرة الحوار مع إيران وإعادة العلاقات الدبلوماسية.
وفق وزير الخارجية «عادل الجبير»: «ينبغى احترام الأعراف الدولية قبل إعادة العلاقات».
الصياغة الدبلوماسية تعنى بالضبط الانفتاح المشروط على فكرة المصالحة.
والشرط المعلن فضفاض إلى الحد الذى يمكن تأويله وفق مستوى الضغوطات الدولية.
الأزمة أكبر من الدولتين معا والتفاهم بينهما فى مدى منظور غير مستبعد.
رغم التحالف الروسى ـ الإيرانى تسعى موسكو لفتح نوافذ مع الرياض وعينها على القاهرة قبل أى عاصمة أخرى فى الإقليم وطهران بدورها تدق بلا كلل الأبواب المصرية التى لم تبلور حتى الآن سياسة إقليمية شبه متماسكة وشبه مقنعة.
ورغم العلاقات التى توصف بالاستراتيجية بين واشنطن والرياض فإن العاصمة الأمريكية لا تخفى سعيها للجائزة الإيرانية بعد رفع العقوبات الاقتصادية والمالية.
أى رهان على استبعاد إيران هو وهم يحلق فى الفراغ.
فهناك صراع روسى أمريكى معلن على الملعب الإيرانى.
أمريكا تراهن على دور إيرانى فى الإقليم بعد رفع العقوبات دون أن تتضح خططه وروسيا تسعى لحصد الجوائز الاستراتيجية والاقتصادية وهى تعرف وسائلها.
لا يوجد لاعب دولى واحد مستعد أن يخاطر بمصالحه على رقعة الدومينو الإقليمية أو أن يسمح بانفلات الأزمة السعودية الإيرانية خارج كل الخطوط الحمراء.
هذا ما يجب أن ندركه هنا فى مصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved