هذا الرجل الأبيض فى تلك الصورة..

حسن المستكاوي
حسن المستكاوي

آخر تحديث: الثلاثاء 5 يناير 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

البرلمان الأسترالى يعتذر لعداء ساند حقوق الإنسان عام 1968

الإعتذار ليس له زمن.. والموت لا يصحب معه حقيقة عمرها 47 سنة ويدفنها..!

بيتر نورمان: لم أستوعب أبدا لماذا لا يشرب رجل أسود من نفس الماء ؟

تلك قصة الإنسانية، والقيم الرياضية، والنضال من أجل الحرية فوق منصات الألعاب الأوليمبية فى دورة المكسيك عام 1968. والقصة جسدتها صورة شهيرة فى لحظة توزيع ميداليات سباق 200 متر عدوا، وقد وقف على منصة المجد والشرف عداءان أمريكيان سود، ومعهما رجل أبيض يدعى بيتر نورمان، لم يذكره تاريخ الحركة الرياضية الأوليمبية، وهو الذى احتل المركز الثانى وفاز بالميدالية الفضية. فالأنظار اتجهت إلى العداءين الأمريكيين تومى سميث، وجون كارلوس وهما يقفان على المنصة بقدمين عاريتين، وبرأس منحنية إلى أسفل، وفى يد كل منهما المرفوعة إلى أعلى قفاز أسود اللون، وكان ذلك رمزا لقضية الفهود السود، ورفض السياسة العنصرية فى الولايات المتحدة تجاه الأمريكيين من أصل إفريقى، وعدم حصولهم على حقوقهم المدنية. وتزامن هذا الموقف من جانب العدائين السود مع مقتل المناضل مارتن لوثر كينج، والسيناتور بوبى كينيدى شقيق الرئيس الأمريكى الأسبق جون كينيدى، والثلاثة تعرضوا للاغتيال.
لم يلتفت أحد إلى العداء الأسترالى الأبيض بيتر نورمان الذى وقف بجوار العداءين الأمريكيين تومى سميث وجون كارلوس على المنصة، بالرغم من أنه صاحب الميدالية الفضية فى سباق المائتى متر عدوا، وقد سجل رقما قياسيا لبلاده فى هذا السباق. ومازال الرقم صامدا حتى اليوم على الرغم من مرور 47 عاما.
احتل تومى سميث المركز الأول، وكان مثل طائرة نفاثة مدفوعا بمنافسة بيتر نورمان ولم يكن عداء معروفا، واختصارا كان سباقا عظيما. ومع ذلك نسى العالم قوة السباق، وقوة المنافسة بين العدائين الثلاثة، وتوقفت الأنظار أمام مشهد الاحتجاج من جانب العداءين الأمريكيين وهما فوق المنصة، أثناء مراسم عزف النشيد الوطنى للولايات المتحدة.
سأل العداءان الأمريكيان منافسهما الأسترالى قبل مراسم توزيع الميداليات، هل تؤمن بحقوق الإنسان، فأجاب: نعم. هل تؤمن بالله. فأجاب: نعم. فقالا له إنهما مقدمان على الاحتجاج وهما فوق المنصة، وأثناء توزيع الميداليات، فقال: «أنا معكما».. وأضاف: هل هناك المزيد من القفازات السوداء والشارات الأوليمبية التى تدعو لحقوق الإنسان، كى أعلن تضامنى معكما؟.. وتوجه الثلاثة إلى المنصة، والباقى كان تاريخا جسدته الصورة.
فى لحظة الاحتجاج، ومع بدء النشيد الوطنى الأمريكى، تعالت الأصوات فى المدرجات تغنى وتهتف، وحين أعلن العداؤون الاحتجاج ران الصمت المطبق على الجميع، تعاطفا أو دهشة. وصاح رئيس الوفد الأمريكى: «هذان العداءان سوف يدفعان الثمن باهظا لهذا السلوك؟» وعلى الفور طرد تومى سميث وجون كارلوس من البعثة الأمريكية. ومن القرية الأوليمبية. وبعد سنوات قليلة خلدت الولايات المتحدة العداءين وتوجتهما من المناضلين فى سبيل حقوق الإنسان، وتحولت الصورة التى التقطت لهما فى استاد الأزتيك الاوليمبى بالمكسيك إلى تمثالين فوق منصة فى جامعة ولاية سان خوسيه. فيما غاب تمثال بيتر نورمان.
غاب أيضا بيتر نورمان عن ذاكرة بلاده. فبعد أربع سنوات استبعد من المشاركة فى دورة ميونيخ الأوليمبية. وكانت أستراليا تمارس سياسات عنصرية تضاهى سياسات جنوب إفريقيا فى ذاك الوقت. واعتبرت موقف نورمان، أعظم عداء فى تاريخ بلاده، تمردا على تلك السياسة. وعوقب العداء الموهوب إنسانيا أيضا فحرم من العمل، وعوقبت أسرته وشردت، وبدا أن بيتر نورمان دفع ثمن اختياره وموقفه النبيل، وكان مثل جندى ضحى بحياته الرياضية من أجل حقوق الإنسان فى أمريكا وفى أستراليا.
توفى بيتر نورمان عام 2006 بأزمة قلبية.. وتوجه جون كارلوس وتومى سميث إلى أستراليا وشاركا فى جنازته وحملا نعشه.
فى عام 2012 أصدر البرلمان الأسترالى بيانا يعتذر فيه عما بدر من الدولة تجاه بيتر نورمان، وقال فى البيان، نعتذر لحرمانه من تسجيل رقمه القياسى فى 200 متر عدوا، ونعتذر على حرمانه من المشاركة فى دورة ميونيخ الاوليمبية، وكان يستحق الاشتراك بأرقامه، ونعترف بشجاعته، وجرأته، وبدوره فى دعم حقوق الأفارقة الأمريكيين، وحقوق الإنسان.. وقد كان لموقفه دوره المهم فى تعزيز المساواة فى بلادنا».
فى فيلم بعنوان التحية، يجسد شجاعة بيتر نورمان جاء بصوته تلك الكلمات: «لم أستوعب أبدا لماذا رجل أسود من النفس الماء الذى نشرب منه، لماذا رجل أسود لا يسمح له بركوب الأتوبيس الذى نركبه، لماذا رجل أسود لا يسمح له بالجلوس بجوارى؟».
كان ذلك ظلما اجتماعيا.. كان ذلك ما كرهته طوال حياتى..
انتهت قصة هذا الرجل الأبيض الذى كان فى الصورة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved