العبد تقرعه العصا.. والحر يكفيه المقال

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: السبت 5 فبراير 2011 - 11:03 ص بتوقيت القاهرة

بعد مضى خمسة عشر عاما من حكم السيد حسنى مبارك بلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها، فقام بجولات خارجية قال عنها إنه يجوب العالم طولا وعرضا من أجل الحصول على ما يوفر به لقمة العيش للشعب، الذى لم يعد يملك قوت يومه. آلم نفسى كما آلم نفوس المصريين جمبعا أن يخلف الرئيس الذى حاطب شعبه «ارفع رأسك يا أخى.. فقد مضى عهد الاستعباد» من يطلب منه أن «امدد يدك يا بنى.. فقد آن أوان الاستجداء»، ردا على استراتيجية الاستجداء تلك وجهت إليه خطابا أناشده «سيدى الرئيس.. أعد لنا وطننا». طالبته بأن يعيد لمصر مكانتها وعندئذ تتوفر لمصر مقومات العيش الكريم، ويستجدى أعداؤها رضاها.

ثم مضت خمسة عشر عاما أخرى فإذا الأمر يتجاوز الاختلال الاقتصادى إلى العبث السياسى والانهيار الاجتماعى، ليضاف التراجع فى أحوال البلاد الداخلية إلى تدهور مكانتها الخارجية اللائقة بها، ويكرس ذلك التدهور. وهو ما أسعد المتربصين بمصر الذين امتدحوا النظام القائم لأنه يخلى الساحة أمامهم ليعلوا شأنهم تجاهه بغير حق، وحاصروا الدولة فى أنفاق تستبيح حدوده وفى ملاعب كرة كميدان لصراع يلهى الشعب عن الدفاع عن تلك الحدود.

وآلمنى كما آلم كل مصرى أن نرى فلذات أكبادنا، وهم فى زهرة العمر، التى تمتلئ قيها المحيلة بأحلام بمستقبل زاهر يشكل حافزا للجد والاجتهاد والبذل والعطاء، يصابون بقدر هائل من اليأس والإحباط، فيفضلون الموت غرقا عن العيش فى غيبة الشعور بالكرامة وفقدان الأمل فى المستقبل، وهم يفقدون الشعور بالانتماء لبلد يبيع غازه بأبخس الأثمان لتسيير عجلة اقتصاد الكيان، الذى استشهد آباؤهم فى سبيل إجلاء عصاباته عن وطنهم، ليوفر فيه وظائف يحرمون منها، تغرى بعضهم بالهرب إليه لاصطياد شىء منها، بينما إخوة لهم مهمتهم حماية حدود مصرهم يطلقون رصاصاتهم على أفارقة يتسللون عبرها ليعفوا جنود العدو من تخضيب أياديهم بها..

وتطول قائمة هموم الشباب والمجتمع، كما يتكرر دق أجراس الإنذار من عواقبها..

كان طبيعيا أن يقودنى استشعار الخطر الداهم أن اختتم مقالى المنشور فى «الشروق» فى الثالث والعشرين من يونيو الماضى بعنوان «سيدى الرئيس.. أعد لنا مجتمعنا وأبناءنا» بقولى: «سيدى الرئيس..

أعتقد أن المهمة أصبحت أكبر من أن يقوم بها فرد.. فهلا دعوت من يرسمون لنا الطريق لإعادة بناء الوطن وتخليص جيله الجديد من كارثة تتهدد مستقبلهم ومستقبله؟» كانت تلك كلمة هادئة تخاطب رأس الدولة الذى استأثر بالسلطة فى يده فلاذ به كل انتهازى فاسد فاسق ينهب أموال الشعب ويهدم أركان المجتمع ويغلق الأبواب فى وجه جيل يتلمس أسباب الرزق الشريف والعيش الكريم. كان بيده أن يسلك طريقا لإعادة بناء المجتمع على أسس قويمة، ولكنه اختار مواصلة الاستماع إلى البطانة الفاسدة، بل وبارك تزييفا غير مسبوق فى حجمه وسفاهته لبرلمان يظن أن بدونه سوف تخرج الرئاسة من عائلته.

ويمهد المنافقون المضللون لذلك بالقول إن البرنامج الذى طرحه على وشك الاستكمال، وكأنهم بذلك يؤكدون للشعب أن هذا البرنامج هو أس البلاء الذى يعانيه.

وبدلا من أن يقود مسيرة إصلاح ولو تدريجى، استمر فى التعالى على الشعب الذى استمع لوعود كثيرة رددها مدعيا: «لقد انحزت وسوف أنحاز للفقراء من أبناء الشعب على الدوام» فازدادوا فقرا وبؤساء. ولعله ترجم ذلك الانحياز بانتخاب حفنة منهم تنهب أراضى البلاد وثرواتها ليدخلوا قائمة أثرياء العالم.

أما دعاوى الديمقراطية فقد تكفل بها رئيس وزرائه، الذى قال إن الشعب المصرى غير مهيأ لها، وهو ما يعنى أنه يعمل، ويريد أن يستمر، فى نظام غير ديمقراطى.

جاء الرد صريحا ومدويا من الجيل الذى طالبت بتخليصه من كارثة تهدد مستقبله، ليحيلها إلى كارثة على النظام الذى سحقه. وفتحت انتفاضة الشباب الباب أمام تحقيق الشرط الضرورى لإقامة نظام ديمقراطى، وهو أن يقوم الشعب بانتزاعها من جلاديه، باذلا التضحيات مهما غلت من أجل القضاء على رءوس النظام المستبد وأذنابه، لا أن ينتظر قوى خارجية تمهد له الطريق إليها، سواء بتقديم الدعم المادى أو الشحن الفكرى. ولعل هذا يسكت الأفواه التى طالما استعْدَت تلك القوى، وبخاصة الإدارة الأمريكية التى تدعى رعاية الديمقراطية، بينما تفرض على العالم أوتوقراطية.

ولم تكن ثورة الشباب مجرد سخط على البطالة والفقر بل نضالا من أجل الحرية، التى أدى غيابها إلى تلك المشكلات، واسترداد جميع الحقوق السياسية والاجتماعية، التى تكفل الشعور بالكرامة والأمان. لم تكن القضية هى أن «الاقتصاد أكبر وأخطر من أن يترك للاقتصاديين وحدهم»، فالاقتصاد والاقتصاديون لا يعملون فى مملكة مستقلة بهم، بل فى مجتمع يصلح عملهم باستقامة أموره، ويسوء بفساد شأنه.

أصبح الإصلاح ضرورة ملحة فكتبت منذ أسبوعين فى الشروق مؤكدا أنه «حتى يكون إصلاحا.. يجب أن يكون اجتماعيا»، وشددت مرة أخرى على أهمية حسن تنشئة الشباب.

كنت مثل كثيرين غيرى، أعتبر أن مشاعر الضياع التى تتبدى على الشباب، وآفات المنظومة التعليمية التى حطمت قدراته، تسببت فى إضعاف تنشئة الشباب المصرى، وانسياقه إلى سلوكيات تسقط الرؤية الصحيحة للوطن من قاموسها. وكانت المعضلة، التى تواجه أى مطالب بإصلاح اجتماعى، هى تحديد الجهة التى تقود حملة الإصلاح.

فإذا بالشباب المصرى الواعى يمسك بزمام الأمور ويقدم أفضل الحلول للمعضلة. إن البدء من القاعدة الديموجرافية للمجتمع تكاد تكون هى الأمثل لعدة أسباب.

أولها أنهم الجيل الذى سوف يتولى أمور بلده لسنوات عديدة مقبلة، تتوارى فيها أجيال بعضها مثلى على وشك أن يقابل وجه ربه حاملا معه حسرات على ماض كنا كلنا حماس لبناء وطن عزيز كريم، فإذا بنشالى الحكم يسلبونه منا، والبعض الآخر أعياه الضياع الذى أصاب المجتمع ففقد القدرة على رؤية السبيل إلى إصلاح حتى شئونه الخاصة وشئون أبنائه. الثانى هو أن الخاصية العمرية تجمع بين أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية بتعريفها العلمى، ربما باستثناء قلة أتاح لها زبانية النظام القائم فرصة العيش الرغد عن طريق الالتحاق بوظائف فى منشآت تابعة لعابرات القوميات، التى اعتبر أولئك المضللون أن ركوبها قارب الاقتصاد المصرى دليل على ثقة فى حسن أدائه وأنه هو الكفيل بتعويمه فى عالم تسوده الأزمات والاختلالات الاقتصادية والمالية العاتية، متجاهلين أن تلبية احتياجات الفئات الكادحة لم يكن يوما من الأيام ضمن أولوياتها.

يكفى أن نذكّر برفض العاملين فى إداراتها العليا عن امتيازاتهم ورواتبهم الضخمة ولو من أجل إنقاذ شركاتهم المهددة بالإفلاس.

الثالث أنهم نزلوا إلى الشارع مجردين من انتماءات إلى كيانات حزبية تعفنت على مدى ربع قرن، ليفتحوا بذلك صفحة جديدة نقية فى تاريخ النضال الوطنى، على الشعب المصرى أن يرعاها حتى يتحقق له الأمن والعزة والكرامة، وأن يسترد مكانته التى فقها.

عندئذ يعود الجيش إلى ثكناته ويسترد جهاز الأمن مكانه ومكانته التى أفقده إياها قيادة أعلت عليه عتاة المجرمين، وتدخل جرذان النظام القائم جحورها، ويسترد الشعب سيادته على مقدراته، ليستقيم المجتمع والاقتصاد والسياسة فى ظل ثقافة لا تشوبها شوائب الانتهازية والنفاق والممالأة.

السيد حسنى مبارك: لقد عاد أبناؤنا.. فاتركهم يعيدون بناء وطننا.. ولتذهب حيث تعمل بالنصيحة التى قدمتها للمعارضين: «خليهم يتسلوا..».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved