عن «إسلام الربيع العربى» والعلاقة بين الثورة والثروة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 5 فبراير 2014 - 4:20 ص بتوقيت القاهرة

تبدو صورة الوطن العربى اليوم، بمشرقه ومغربه، مختلفة تماما عنها فى مثل هذه الأيام لثلاث سنوات مضت، هى العمر الافتراضى لما أطلق عليه تسمية «الربيع العربى». لقد اختفى العديد من الأنظمة التى كانت قائمة، وتصدرت الصورة قوى جديدة تحاول إعادة صياغة «النظام» فى بلادها بهذا القدر أو ذاك من النجاح.

لم تكن عملية التغيير سهلة دائما، ولا هى تمت ــ حيث تمت ــ وفق معايير الثورة الكلاسيكية، ولا هى نجحت بعد فى إقامة «النظام الجديد». لا هى قطعت تماما مع الماضى، ولا هى استطاعت أن تقدم صورة واضحة للمستقبل.

الكل ينسب ما حدث إلى «الربيع العربى» وهى تسمية غامضة وشديدة الالتباس تجعل هذا الربيع مجهول الأب، مجهول خط السير ومجهول الغايات وصولا إلى هدفه الأخير. من يستطيع رسم المستقبل اعتمادا على توصيف غامض لحركة تغيير بلا قيادة واضحة ولا عقيدة محددة وبرنامج معلن صاغه من يفترض فى ذاته القدرة على تنفيذه بدعم من قوى حقيقية فى المجتمع اعتمدته بإرادتها الحرة؟!

وبغض النظر عن أن تسمية «الربيع العربى» ليست عربية المصدر، وأنها وصلتنا مترجمة، فإن الانتفاضات التى توالت مفجرة أنظمة القهر والتخلف فى دول عربية عدة لم تكن موحدة لا فى هوية الذين كانوا الطلائع فى مسيرتها، ولا فى أغراض الذين حاولوا فنجحوا أحيانا وأخفقوا أحيانا فى تحريف هذه الانتفاضات عن أهدافها... وما جرى لانتفاضة الميدان فى مصر شاهد وشهيد!

•••

إن ما وقع فى سوريا ولها مختلف جدا عما وقع لتونس وفيها، ومختلف إلى أقصى حد مع ما وقع فى ليبيا ولها... وبالمقابل فإن ما وقع فى مصر ولها يمكن أن يشكل تحولا جذريا فى خط سير الأحداث فى المنطقة عموما.

فى أى حال لا يمكن الفصل فى هذه الموجة العارمة من التحولات فى المنطقة عموما بين الطفرة الإسلامية التى حاولت مصادرة الانتفاضة الشعبية فى أكثر من بلد عربى، وبالسلاح أحيانا، وبين قوى الميدان التى اجتهدت فى حماية «الثورة» بصدورها وبثباتها فى الميدان حماية لحقها فى «دولة وطنية» تؤمن لها طريق الوصول إلى غدها الأفضل.

وإذا ما سلمنا أن سوريا قد شهدت التفجرات الأولى للغضب الشعبى ضد عنف النظام وعسفه، فإن التحولات التى طرأت على مسار «الانتفاضة» قد أخرجتها من سياقها الثورى وحولتها إلى حرب أهلية أممية مرشحة للتمدد إلى ما حول سوريا، بذريعة أن السلفية الإسلامية لا تعترف بالحدود.. فالإسلام أممى ورسالته موجهة للناس كافة... وهكذا دخل الشيشانى والتركمانى والوافدون من الجزيرة والخليج العربى فى الحرب لإعادة اسلمة المسلمين الذين أضلتهم الجهالة والخروج على أصول الدين، تحت راية الخلافة. وفى غمرة هذا «الجهاد» لا بأس بالمساعدات تأتى من الكفار الأمريكيين أو الفرنسيين أو البريطانيين أو من الإخوة فى الدين فى تركيا... ولا بأس من توسيع التنظيم (داعش) ليشمل بجهاده العراق والشام... كذلك لا بأس من سيل من التفجيرات بالعبوات الناسفة أو بالانتحاريين (فى سبيل الله) يمكن أن يمتد إلى لبنان بذريعة الرد على مشاركة «حزب الله» فى حرب النظام السورى.

وها هو العراق على شفا التمزق فى غمرة حرب أهلية تستهدف وحدة المسلمين فتقسمهم سنة وشيعة (وهم المتداخلون حسبا ونسبا والمنتمون إلى العشائر ذاتها ولو اختلفوا مذهبيا..).

أما لبنان فيعيش شعبه فى قلب الخوف من الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم فى الأسواق والضواحى المكتظة، طلبا للجنة، متسببين فى رفع منسوب التطرف المذهبى الذى يكاد يخرج الجميع من دينهم الحنيف.

فإذا ما انتقلنا إلى الشمال الافريقى طالعتنا صورة ليبيا غارقة فى دماء أبنائها، وكلهم من المسلمين السنة وأكثريتهم الساحقة على المذهب المالكى، ومع ذلك تتوالى الاشتباكات بين الأهالى (وأساسا بين مشروع الدولة الجديدة وبين قبائل الدولة المسقطة) وترفع الشعارات الإسلامية المتطرفة فى وجوه المسلمين... وتتهاوى صورة «الدولة الجديدة» تحت ضغط المحاولات الانفصالية شرقا وغربا وجنوبا، كأنما لكل محافظة إسلامها.

أما فى تونس فيبدو أن الإخوان المسلمين فيها قد سلموا، بعد معاندة طويلة، بالشراكة مع القوى الوطنية، فتم إقرار مسودة الدستور الجديد، وتمت إعادة تشكيل الحكومة الجامعة بعد مماحكة طويلة لحفظ الحصة الوازنة للإخوان.

•••

وبالتأكيد فإن الانتفاضة الثانية فى مصر والتى أسقطت حكم الإخوان بالضربة القاضية واهاجت المصريين عموما ضد هذا التنظيم المتخلف فكرا وممارسة، قد نبهت إخوان تونس إلى ما ينتظرهم إذا هم واصلوا محاولاتهم لاحتكار السلطة وكأن الثورة التى انطلقت من دونهم وفى غيابهم هى ثورتهم لوحدهم وسلطتها لهم وحدهم.

ولقد أمكن للسلطة التى قامت بقوة الأمر الواقع فى تونس أن تتجنب ما تورط فيه الإخوان فى مصر بعد خسارتهم السلطة من أعمال عنف وخروج على الدولة، وان تبتعد عما ارتكبته جماعات «داعش» وسائر تنظيمات التطرف والإرهاب باسم الإسلام فى سوريا من إحراق لأسباب العمران التى كانت أنجزتها الدولة كالمصانع والمستشفيات والمبانى الجامعية والإدارات والمؤسسات الحكومية.

أما فى مصر فإن استنقاذ الدولة ومؤسساتها إنما تم بفضل الانتفاضة الثانية فى آخر شهر يونيه من العام الماضى، ثم التظاهرة المليونية غير المسبوقة التى ملأت شوارع المدن المصرية كافة بجموع الغاضبين من رافضى حكم الإخوان.

ومع أن مناصرى الإخوان ما زالوا يملأون صباحات أيام الجمعة بهتافاتهم وتظاهراتهم المحدودة المطالبة بإخراج «الرئيس الشرعى ورفاقه» من السجن، ومنع محاكمتهم، ويكابرون فيرفضون الاعتراف بالأمر الواقع، ويتجاوزون أحلامهم وأوهامهم باستعادة السلطة، إلا أن مصر تبدو وكأنها قد اختارت طريقها وهى ماضية قدما فى قلب الصعب.

وبالتأكيد فإن من سوف يتسلم الحكم فى مصر، بعد انتهاء الفترة الانتقالية، التى أنجز فى التمهيد لها الدستور الجديد باستفتاء شعبى مشهود، سيواجه أوضاعا فى غاية الصعوبة، اقتصاديا بالأساس، ثم سياسيا، فضلا عن حالات التفلت الأمنى وقد بلغت فى الآونة الأخيرة حدود القتل العشوائى والتعدى المتواصل على قوى الجيش والأمن، كما تسببت فى الكثير من عمليات التخريب، فضلا عن عمليات السلب والنهب التى أفاد «أبطالها» من الاضطراب الأمنى لخلق البلبلة والفزع فى الشارع.

•••

ويتابع العرب جميعا، بأهل اليمين فيهم، وهم أهل الثروة الهائلة والقدرات المفتوحة نتيجة تراكم الوفر النفطى، وأهل الوسط واليسار، باهتمام بالغ وكثير من القلق تطور الأوضاع فى مصر، والنقاش الحيوى الجارى حول تقدم المشير عبدالفتاح السيسى إلى رئاسة الدولة.

أما مصادر القلق فتتجاوز صعوبات الأوضاع القائمة فى مصر اليوم، إلى الالتزامات والقيود التى سيرثها «العهد الجديد» عن العهود الماضية وأخطرها ما يتصل بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفيها المساعدات العسكرية وبعثات التدريب لضباط الجيش المصرى، ثم ما يتصل بالعلاقة مع دولة العدو الإسرائيلى، بكل فصولها الموجعة.

ويتوقف كثير من المراقبين أمام هذه الحماسة الفائضة عن التوقع التى تبديها السعودية وبعض أقطار الخليج (فيما عدا قطر) للنظام الجديد فى مصر... فالتجربة علمت الجميع أن الثورة والثروة لا يلتقيان، وان التغيير والنفط لا يمكن ضبطهما فى سياق واحد.

ومع أن الكل يعرف أن ثورة مصر ليست للبيع وان ثروة أصحاب الثروات لا يمكن أن تشترى إرادة التغيير وقواها الشعبية، إلا أن محاولات الاحتواء ــ وهى ظاهرة ومكشوفة ــ تثير القلق، وتفرض قدرا من الحذر والترقب.

إن عملية التغيير تاريخ كامل.. ونحن بعد فى الصفحات الأولى منه. والمهم أن يصنع العرب ربيعهم، لا أن يأتيهم الربيع معلبا، بإرادة مصنعيه، ويفرض عليهم مستقبلا لم يطلبوه ويحدد الطريق إلى غدهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved