علامات مبهمة على طريق وعرة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 5 فبراير 2020 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

قضيت ساعات ثقيلة مع آخر محاولة من جانبى لفهم وثيقة السيد جاريد كوشنر صهر السيد دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وهى وثيقة أتاحت لى ظروفى أن أعرف مقدما من ذوى الخبرة وقد سمحت لهم اتصالاتهم ومراكزهم الاطلاع على أجزاء متفرقة منها فى أوقات متفرقة، ثم اطلعوا عليها فى شكلها النهائى قبل أن تأتى ناحيتى فاطلع عليها بدورى، أقول إننى عرفت منهم مقدما أنه لا يجب أن أتوقع أن أجد فيها أو بالأحرى أنتظر مجموعة إرشادات تختلف فى جوهرها عن الإرشادات المزودة بها طرق كثيرة تقودنا إلى مستقبل مكتوب لنا.
***
تقترح الوثيقة للقارئ الذكى أن يلاحظ أن إسرائيل تخطت بنجاح، وإن بمشاق وتضحيات، جميع مراحل النشأة، وأثبتت لشعبها والعالم الخارجى، وبخاصة لأقليتين متعصبتين فى جموع الناخبين الأمريكيين، إحداهما إنجيلية والثانية يهودية، إنها حققت مظاهر وشروط البلوغ ولا يفصلها عن الاحتفال به سوى مسائل شكلية سوف تجرى إزالتها خلال السنوات الأربع القادمة. فى ذلك الحين سوف تكتمل للدولة الإسرائيلية جميع مظاهر السيادة، وتبدأ على الفور عملية اللحاق بتيار «التجديد القومى» الذى يجتاح أوروبا، بل والعالم بأسره. صحيح أن الحكم فى إسرائيل كان سباقا حين خضع لأعوام عديدة لهيمنة أحزاب اليمين القومى وأحيانا أحزاب اليمين الدينى، حين ظهر على الساحة قبل، أو ملازما، لظهور التيارات اليمينية فى فرنسا وهولندا وألمانيا والمملكة المتحدة. بل سبق، وهو المكون الأهم فى التطورات الراهنة، تولى دونالد ترامب رئاسة الجمهورية الأمريكية ونشأة الترامبية كتيار قومى أمريكى يدعو، كما يدعو الآن رئيس وزراء بريطانيا، إلى أن يعترف العالم لهما كما لإسرائيل بالاستثنائية فى المكانة والسلوك. صار بناء الدولة، أو إعادة بنائها، شعارا ترفعه دول عديدة فى الشرق والغرب وتطلب من الآخرين الاعتراف بحقها فى أن تتجاوز فى التصرفات من أجل هذا الحق «النبيل والمشروع». الروس يرفعون هذا الشعار والهنود والمصريون وأهل الخليج وربما كل العرب والأتراك. كوشنر وخطته لا يعترفان بحق الفلسطينيين فى وطن إلا بشروط وفى حين معين يحدده بنفسه فهو أدرى بشعابها من أهلها.
***
أكتب هذه السطور ومن حولى يصدر عن أدوات الإعلام والاتصال سيل من اتهامات لدول تتعامل مع دول أخرى بأساليب غير نظيفة. الاتهام ليس جديدا والممارسات غير النظيفة فى السياسة الدولية كثيرة ومتنوعة، وأظن أنها نشأت مع نشأة أول علاقة بين دولتين. إلا أن دولا كثيرة أدركت مع مرور الزمن أن فى العلاقات الدولية يجب أن يكون الاعتماد على الممارسة النظيفة باعتبار أن عائدها أقل خطرا وكلفة من عائد الممارسات غير النظيفة. أسمع الآن أن الصينيين يتهمون الأمريكيين بشن حملة تشوية صورة الصين، بل بشن حملة قذرة تتهم الصين بالتقاعس عن وقف انتشار فيروس الكورونا. أكثر الدول العربية والفلسطينيين يتهمون أمريكا باستخدام أساليب غير نظيفة ضدهم لأن الحرب التجارية التى شنتها أمريكا على الصين وتشنها على دول أخرى لأسباب متباينة لم تترك مجالا للشك فى أن الولايات المتحدة تقدم على ممارسات غير نظيفة مع الدول التى تختلف معها والدول التى تهيمن عليها. يحق لهؤلاء بأى معيار اصدار هذا الاتهام على ضوء ما قامت به واشنطن مؤخرا فى حربها ضد الفلسطينيين. نقلت سفارتها إلى القدس وأعلنتها عاصمة موحدة و«أبدية» لإسرائيل. اعتبرت الجولان أرضا غير محتلة والمستوطنات حقا لإسرائيل، وأوقفت المعونة لوكالة غوث اللاجئين، ثم وبكل بساطة تبنت خطة السيد كوشنر نهائية وغير قابلة للنقاش، وفى الوقت نفسه، قابلة للدرس والتأمل خلال مدة سنوات أربع. مرة أخرى، تتدخل اعتبارات السياسة الداخلية الأمريكية، فالمدة المحددة تنتهى مع اقتراب نهاية ولاية السيد ترامب، علما بأنه لا الدرس ولا أفكار جديدة يمكن أن تغير ما اتخذته واشنطن من قرارات أو ما نصت عليه الخطة. ممارسة غير نظيفة. هكذا بدت للفلسطينيين وبعض العرب.
***
ليس غريبا على كل حال أن يحذر حكماء من العرب وغير العرب من صعوبة مرحلة «التفاوض» القادمة، وبعضهم ألمح إلى استعداده تحمل هذه المسئولية على صعوبتها وغموضها. الغريب هو أن تصدر هذه التحذيرات المتفائلة رغم أن السيد كوشنر استبعد إجراء أى مفاوضات فى حال لم يلب الفلسطينيون شروطا وصفها بالأساسية وهى إقرار مبادئ حرية الصحافة وإجراء انتخابات حرة وإنشاء مؤسسات مالية خاضعة لمبادئ الشفافية والمصداقية والكفاءة. ولتأكيد عزمه ونيته الحقيقية قال «إذا لم تتوافر هذه الشروط كيف يتوقع منا أن نقنع إسرائيل بتقديم تنازلات».
***
جلس إلى جانبى شاب من زملائى الصغار فى السن. كنا نقرأ الخطة والشروط وننظر بكثير من السخرية المصحوبة بالألم إلى خريطة مرفقة بالخطة، وفجأة انتصب الشاب واقفا وقال «ابنى لن يرضى بهكذا خريطة ولا بخطة تفوح من كل جوانبها رائحة ميول ونوايا فوقية يهودية تفرضها على دونية عربية. الأجيال القادمة سوف تسعى لتمزيقها كما حاولتم أنتم أنفسكم وحاول أباؤكم مع خرائط وخطط خلفها الاستعمار الأوروبى.. ثم من قال إن بقية دول الشرق الأوسط سوف تنفذ شروط السيد كوشنر إذا نحن أطعنا ووفقنا ونفذناها».
***
نعيش مرحلة انقلبت فيها دول من جميع المقاييس والأحجام على القانون الدولى. أمريكا، وهى على كل حال صانعة نظام دولى جديد مارست انقلابات على القانون الدولى، مارستها بكثافة عندما لاح لها أنها تقود العالم منفردة كقطب أوحد عند نهاية القرن الماضى. ولكنها تفوقت على نفسها فى المرحلة الترامبية وهى المرحلة التى يمكن أن تخلف تشوهات بارزة فى شكل النظام الدولى القادم ومضمونه. لم يختلف اثنان من حكماء القانون الدولى فى العالم العربى على أن ما جاء بخطة كوشنر هو اعتداء صارخ على القانون الدولى وعلى المؤسسات الدولية وعلى روحه وفلسفته. ومع ذلك يبدو لى أحيانا أننا نعيش عصرا يكفر بالقانون والأخلاق عموما. كنت أتابع على التلفزيون شهادة أستاذ قانون فى واحدة من أهم الجامعات الأمريكية وهو يدافع عن الرئيس ترامب أثناء مناقشة قضية عزله. أفزعنى قول هذا الأستاذ الذى يُدرس الشباب فى جامعته أصول القانون إنه يحق للرئيس أن يفعل ويقرر ما يشاء، ضمن سيادة القانون أو خارجه، من أجل أن يفوز بولاية ثانية إذا هو اعتقد أن فى وجوده فترة ثانية فائدة لأمريكا. بمعنى آخر لا جريمة ارتكبها سيادته إن هو طلب من رئيس أوكرانيا فتح تحقيق مع ابن منافسه فى الانتخبات المقبلة جون بايدن مهددا الرئيس الأوكرانى بسحب المعونة العسكرية الأمريكية المقررة لبلاده إن لم يلب رغبته.
هذه النظرة إلى القانون كانت بلا شك فى ذهن صانع خطة كوشنر وزميله السيد فريدمان وممولها المليونير الصهيونى. وجدوا أن من حقهم وحدهم أن يعيدوا رسم خرائط فى الشرق الأوسط طالما أن الفائدة تعود لإسرائيل وطالما كانت الكلفة السياسية والاقتصادية سوف تتحملها شعوب المنطقة. لاحظنا أن هذه النظرة إلى القانون صارت شائعة فى السياسات شرق الأوسطية، والأمثلة كثيرة ليس أقلها شأنا ممارسات الرئيس الطيب أردوغان فى سوريا وكردستان وشرق البحر المتوسط وعبر البحر حتى ليبيا. يمارسها أيضا قادة الحكم الإيرانى.
***
الخطة بخرائطها بين يداى أرميها جانبا وأتجاهلها مؤجلا الاهتمام بوقف تنفيذ سيناريو غير مرغوب لمستقبل أمتى وأبنائى وأحفادى من بعدي؟ أم أعود إلى قراءتها مرة ثالثة لعلنى أجد فى سطورها أو بينها ما يبرر إلحاح الملحين والمؤملين خيرا أن نضع «السلام» كلمة فى عنوانها؟. لم أجد ولن أجد. أم أعود فأدعو القادة العرب إلى رفضها كما رفضوا غيرها من قبلها، على أن تخرج من قمتهم القادمة خطة مفصلة مقابلة تعلن النية فى وقف التدهور فى هذا النظام العربى الهالك حتما إن لم تهب هذه القمة لإنعاشه أو استبداله؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved