لماذا مدائن العقاد؟! (11)

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 5 فبراير 2020 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

عرض الأستاذ العقاد، فيما عُرض له، وتناولناه بالمجلد الأول لمدينة العقاد: «الحكم المطلق فى القرن العشرين» وأصدره سنة 1928، والعالم يئن من الممارسات الاستبدادية، وتناول فيه الدول الدكتاتورية آنذاك: إسبانيا، وتركيا، وإيطاليا، ودكتاتورية بسمارك ونابليون.
ومن دلالات هذا الكتاب الصادر سنة 1928 وتواريخ المقالات المنشورة فيه والتى ترجع إلى ما قبل هذا التاريخ ـ من دلالاته الموقف المبكر الذى اتخذه العقاد ضد الاستبداد والفاشية، وانحاز فيه إلى الحرية. وقد هاجم هنا بضراوة رموز الاستبداد، وحمل على «موسولينى» زعيم الفاشية، بينما كان هناك غيره من يُعجب به ويمتدحه، كما حمل على باقى الطغاة فى عصره وما قبل عصره، أمثال بسمارك ونابليون بونابرت.
واستهل العقاد هذا الكتاب الذى صدر فى زمانه، والدنيا بحاجة إلى مراجعة ما جرى ويجرى وكابدته الإنسانية بعامة من هذه الممارسات ـ استهله بتساؤل: هل فشلت الديمقراطية؟!
كان الاستبداد المطلق مقدسًا فى زعم رجال الدين، فقد كان وسيلتهم أو جسرهم لحفظ مكانتهم وقضاء مآربهم.. فألحقوا بالحكم «مصدر إلهى» بزعم أن الحاكم (المستبد) يتلقاه من السماء، فلا هو يُسأل عنه ولا أحد يملك هذا السؤال، وليس للشعب ــ أى شعب ــ إلاَّ أن يطيع حاكمه كما أطاع ويطيع خالقه، ويؤمن بحكمته كما آمن ويؤمن بحكمة ربه.
كان هذا هو مصدر الحكومة المستبدة إلى ما قبل القرن الثامن عشر، وكان الإيمان به أو التسليم له شائعًا لا يشك فيه إلاَّ أفرادٌ معدودون من أحرار الفكر، يتخفون بآرائهم كما يتخفى المجرم بجريمته.
على أنه حين انتقل سلطان الحكم من الملوك المستبدين إلى مشيئة الشعوب، انتقلت القداسة معه إلى المصدر الجديد، فصار الحكم الجديد يتترس بحكم العادات المتأصلة والعقائد الموروثة، بالقداسة المستمدة من التفويض الشعبى، وصارت هذه العقيدة الحديثة عقيدة فى الضمير يشوبها الإبهام!
أصبحت الديمقراطية عقيدة مقدسة فى العرف الشائع، ولكن جاءها الخطر من هذه الناحية، فأسرع البعض من عشاق الاستبداد إلى التنادى بأن الديمقراطية لم تهبط على الأرض من السماء، وأن تلك القداسة مجاز لا حقيقة لها فى العلم والاستقراء.
وفى أواخر القرن التاسع عشر ظهرت «السيكولوجية» أو علم النفس، وتفرغت فروعه وكثر الاشتغال بالبحث فيه وتطبيقه، واستغرب الناس منه تعرضه لتوصيف أطوار الجماعات والأساليب الجارية فى تكوين عقائدها وتوجيه أهوائها وإثارة خواطرها وتسيير حركاتها. وكان من أثر ظهور «السيكولوجية» بعد الديمقراطية، أن تطرق الوهم من تقديس الملوك المستبدين إلى تقديس الحكام المتساندين إلى تفويض أو تقديس الشعب. ولولا خرافة تقديس المستبدين (الإلهيين)، لما وجدت خرافة تقديس الشعوب (الإلهية).
لم تنقض على بداية الديمقراطية سنوات، حتى خيبت آمال الحالمين فيها والمظلومين مما سبقها المترقبين للفردوس الجديد الذى طفق التغنى به أنه لا ظلم فيه ولا إجحاف ولا تمييز بين قوى وضعيف أو قريب وبعيد.
فقد صدمت الحالمين والآملين، وقائع الحياة وثمرات التجربة الأولى التى لم تخل من النقائص ولا سلمت من الاضطراب. ولم يكن أقسى على الديمقراطية ولا أظلم لها من غلاة المؤمنين بها الذين كلفوها بما لا يكلفه نظام فى هذه الدنيا.
ثارت أسباب حقيقية وأخرى مصطنعة للشك فى حقيقة النظام الديمقراطى، وقيل فيما قيل إن عيوب الحكومة الشعبية مكشوفة ذائعة باستفاضة علاقاتها واشتراك الألوف فى دعوتها وأعمالها. فليس لها حجاب من الروعة أو الهيبة مما كانت تستتر به عيوب الحكومات المستبدة بتعاون الكهان والمداحين والبلاطيين.
ومن الأسباب المصطنعة أن نقد الديمقراطية يرضى غرور المحبين للتعالى عن «الشعبيات»، ومنها أن المستبدين الطامعين فى عودة الحكم إليهم يسعون سعيهم سرًّا وجهرًا لتشويه كل نظام غير نظامهم والتأليب ضده بذرائع منها أن الزمن زمن تتوالى فيه المخترعات وينزع الناس فيه إلى الأحدث والأغرب.
وهكذا صار نقد الديمقراطية يصادف من العناية أضعاف ما تستوجبه الأسباب الحقيقية البريئة من الوهم أو الغرض. أما الأسباب المصطنعة فما حقيقتها ومبلغ صدقها وما تجيزه؟ وهل هى تجيز أو لا تجيز الحكم بفشل الديمقراطية، أو بفشلها القريب؟
ولهذا كان التساؤل: هل فشلت الديمقراطية؟

لم تفشل الديمقراطية
لا، لم تفشل الديمقراطية، ولا ظهر من آثارها وعلاماتها إلاَّ ما يدل على نجاحها وثباتها.. أما تلك الأسباب المصطنعة للهجوم عليها، فأكثرها من أنصار الحكم المستبد المطلق، طلاب العودة إليه!
والزعم بأن الشعوب لا تصلح للديمقراطية، زعم متهافت ودليل فى ثناياه على وجوب أن تتجه جهود وآمال المصلحين وطلاب الكمال إلى العناية بالشعوب، ودليل فى ثناياه ضد طلاب الحكم المطلق الذين يتخذون من ذلك ذريعة لفرض أنفسهم على الشعوب!
فإذا كان للديمقراطية ــ جدلا ــ عيوب، فإنها عيوب الطبيعة الإنسانية التى تظهر فى أى نظام، ولا تختص بها الديمقراطية.
ويشير العقاد إلى بعض الباحثين ومنهم الأستاذ «ساروليا» الذى حاضر طلبة الجامعة المصرية، وأبدى أن الحكم النيابى تراث إنجليزى غير قابل للتعميم فى الأمم الأخرى، ومثال ذلك الأمة الفرنسية التى لا تستقر فيها الوزارات طويلا بسبب اختلاف الأحزاب وصعوبة التوفيق بينها، وأن هذا الاختلاف من أعراض الحكم النيابى ومن الدلائل على أنه لا يصلح لكل أمة!!
وهذا رأى مغلوط لا تستقيم له حجة والواقع أن العصبيات الحزبية فى فرنسا لم تفتأ تمزقها فى عهود حكامها المطلقين، ولم يخل جيل واحد فى تاريخها من فتنة على وراثة العرش. وليس يعقل أن الحرية الشعبية ما هى إلاَّ فترة موقوتة جاء بها وباء عام أصاب الطغاة فى مقدرتهم على الحكم، ثم تعود الأمور إلى حالها بعد زوال هذا الوباء، ليستبد الطغاة بالحكم بدعوى أنهم يتحركون بتفويض إلهى فى ملكوت الله!

الديمقراطية هى حكومة الشعب، وهى أكمل وأشمل من أن يداخلها ما يزعمه خدم الطغاة!

تمثيل الشعب
تحدث العقاد فيما تحدث ـ عن اختلاف تمثيل الشعب تبعًا لاختلاف القوانين الانتخابية، 
فقد تسعى لتمكين طبقة واحدة، أو إلى تمثيل جميع الطبقات ما عدا طبقة واحدة قد تفسح لها، وقد تتيح تمثيل جميع العناصر على نسبٍ متوازنة تكفل لكل عنصر اشتراكه الصحيح فى تمثيل الشعب وفى تكوين الحكومة. وهذه هى الحكومة الديمقراطية فى أوفى وأصلح أشكالها.
أهم ما فى الديمقراطية أن يشعر كل فرد وكل قرين بأنه صاحب رأى فى حكومة بلاده، وبغير ذلك لا تتحقق لها مزية، ولا يطمئن المحكومون إلى المجالس النيابية، وقد تعززت مبادئ التوسع فى حقوق الانتخابات قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، وأخذت بها أكثر الأمم فى انتخاب مجالس النواب، ولم يشذ عنها إلاَّ بعض الدول وجمهورية العبيد التى تشترط الملكية لدخول البرلمان.

‏Email:rattia2@hotmail.com
‏www.ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved