ألفريد هيتشكوك فيلسوفًا

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأربعاء 5 فبراير 2020 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة ندى حطيط.. نعرض منه ما يلى:

لا يجادل كثيرون بأن المخرج البريطانى ألفريد هيتشكوك، (1899 ــ 1980) واحد من أسماء قليلة يمكن التداول بشأنها عندما نتحدّث عن أعظم مخرجى السينما فى القرن العشرين. وهو دون شكّ عبر 53 فيلما عمل عليها خلال مهنة استمرت 60 عاما يستحق وحده لقب «ملك التشويق السينمائي» لما تضمنته أفلامه الكثيرة من معالجات رائدة ما زالت إلى اليوم مرجعا يتعلّم منه السينمائيّون الشبان، ووجبة لا غنى عنها لكلّ متذوّق على مائدة الفن السّابع فكأنها نبيذ تزداد قيمته كلما تعتّق.
كان هيتشكوك الذى ولد شرق لندن قد التحق بصناعة السينما وهو ابن الحادية والعشرين من عمره، فعمل فى استوديو للإنتاج السينمائى لشركة أمريكيّة كبرى، وأغرق نفسه بجدّ داخل كل جوانب المهنة قبل أن يمنح الفرصة لإخراج أول أعماله عام 1925. وقد صنع مبكرا أفلاما بارزة حققت حضورا، لكن الأوضاع الاقتصاديّة السيئة فى بريطانيا الثلاثينيّات أجبرته على قبول عرض للانتقال إلى هوليوود بالولايات المتحدة عشيّة الحرب العالميّة الثانية. وهناك صنع مجموعة متتابعة من الأفلام التى امتازت بعمقها الفكرى وبحثها بأدق خصوصيات التجربة النفسيّة الإنسانيّة العابرة للثّقافات والأزمنة، ومثّلت أعماله للجمهور الأمريكى العادى تطبيقا عمليا على أساليب مدرسة التحليل السيكولوجى التى بقيت لوقت قريب قبلها مساحة محصورة بالنّخب والمثقفين.
وللمفارقة، فإن أفلام هذا الكبير، لا سيّما فى النّصف الأول من تاريخه المهنى الطويل، حظيت وقت ظهورها بقبول عريض من جمهور المشاهدين دون النقّاد الذين لم يدركوا عبقرية طروحاته وعمقها إلا بعد ظهور أفلام الواقعيّة الإيطاليّة الجديدة، ولاحقا تيار سينما الموجة الجديدة فى فرنسا الذى اعترف للرجل بفضله وأصالة أعماله. لكن أفلامه حظيت لاحقا باهتمام مجموعة غير متوقعة من المعجبين، وأعنى بهم دارسى الفلسفة ومحبيها الذين شرع بعضهم فى ترفيع قيمة الرجل إلى مكانة الفيلسوف على قدم وساق مع الأسماء الكبرى لذلك الفضاء النخبوى من أمثال ديكارت، وهيوم، وكانت، وفيتجنشتاين وغيرهم. وقد أصدر أحد الأساتذة الأمريكيين (روبرت ينال) بالفعل كتابا بعنوان (هيتشكوك كفيلسوف ــ 2005)، لتتالى بعده الدّراسات والمطارحات والمقالات المحكمة فى أرفع دوريات الفلسفة العالميّة حول الثيمات التى تناولها الرّجل بمختلف أعماله.
***
وللحقيقة فإنه من دون هيتشكوك يصعب على غير المتخصص النّفاذ إلى القيمة المعرفيّة التى قد تحملها الأعمال الأدبيّة والفنيّة المتمحورة حول الرّعب من جحيم دانتى، إلى لوحات فرانشيسكو غويا، وتراجيديّات شكسبير، وروايات كافكا، ولاحقا الأفلام السينمائيّة والمسلسلات المعاصرة، بالطبع دائما إلى جانب ما قد تحمله من القيمة الفنيّة المحضة أو الأخلاقيّة الأكثر وضوحا. ولعلّه من خلال أعمال مثل (سايكو ــ 1960) و(الطيور ــ 1963) يصوغ أبلغ إجابة على تساؤل دائم عن معنى إقبال الجمهور على تذوّق تلك الأعمال ومتابعتها، رغم أن بعضها يبدو وكأنّه احتفاء بالعنف الدموى لذاته.
عند هيتشكوك فإن أدب أو فن أو شريط الرّعب (سواء تعامل مع مخلوقات خياليّة أو حتى انحرافات بشريّة ممكنة وواقعية على نحو ما) يقدّم للمتلقى تجربة شك فلسفيّة مهمّة تجاه العادى والمألوف فى الحياة اليوميّة المعتمدة على كثير من الافتراضات المتراكمة فيما يسمى بالحسّ السّليم أو المشترك ــ أو ــ «Common Sense»، الذى يسمح للبشر بالمضى فى حياتهم من دون التوقف عند كل الاحتمالات. سينمائيّا، فإن ذلك يعنى حدثا مناقضا لذلك الحس السّليم (الذى هو أصلا ليس عقلانيا بالمطلق) يكسر إيقاع حياة تبدو اعتياديّة ومكررة ومفعمة بالرتابة، ويتسبب بخلق استجابات عاطفيّة شديدة الكثافة فى لحظة المشاهدة تتراوح بين القلق واليأس والبارانويا أو مزيج منها. لكن تأثير بعضها قد يلتصق بالمتلقى لبعض الوقت، ويلاحقه فى يومياته، لا سيّما وأن البشر يحتفظون بداخلهم برصيد هائل من المخاوف الوجوديّة ننساه لحظيا لكنه قابل للاستعادة: الخوف من الموت، ومن المرض، ومن الموتى، ومن جنون العالم من حولنا. بالطبع يدرك المتلقى أن المادة الأدبيّة أو الفنيّة التى عرضت عليه ما هى إلا عمل من أعمال الخيال، لكن التأثير شديد الكثافة الذى يحدث نتيجة له لا يبدو أنّه يزال بمجرّد التعقل، وإنما بالعودة للاندماج باليومى والمألوف على نحو يسمح تدريجيا باستعادة التّوازن و«الحسّ السليم».
***
فيلمه «سايكو»، الذى يحتفل بمرور 60 عاما على إطلاقه، يعتبر اليوم بمثابة فاصل يؤرّخ لسينما الرّعب من قبله وبعده. ففيه تحديدا ولأوّل مرّة فى تاريخ هذا النوع من الأفلام لم يقدّم هيتشكوك أيّ ضمانات للبشر بإمكان مواجهة الخطر مصدر الرّعب أو حتى مجرّد التعامل معه بفعاليّة على نحو يصدم المتلقى ويضعه فى حالة تامّة من الشكّ الفلسفى لا تنتهى إلا بمحاولة الاندماج مجددا داخل يوميّات العيش. يقوم السيناريو بإثارة بارانويا حادّة فى الذّهن عبر ما تبدو أمورا مألوفة وعاديّة لتتحول دون مقدّمات إلى خطر داهم يمكن أن يتسبب للإنسان بالهلاك. ورغم فكرة وجود إنسان يبدو من النظرة العابرة عاديا، لكنّه يتقلب فى لحظة ما إلى وحش يهدد وجودنا ذاته، ليست بالجديدة تماما، لكن عبقريّة صياغة هيتشكوك كانت بجعل السرديّة المرعبة أمرا لا يمكن استبعاده منطقيّا وعقلانيا بأى شكل عن أى منا، وعلى نحو يطيح بقسوة بكل «حِسّنا السليم»، ويفقدنا مؤقتا على الأقل الثّقة بكل افتراضاتنا المسبقة. ورغم أن ذلك السيناريو يرسم القصّة فى فندق صغير بالولايات المتحدة الأمريكيّة على طريق سفر ما، إلا أن سينوغرافيا الفيلم من أوّله إلى آخره تخاطب جمهورا بشريا عابرا للمكان وحتى للزمان، ولا تمنح المشاهد فرصة لاستبعاد الحدث على أسس ثقافيّة من نوع «هذه الأمور لا تحدث فى بلادنا» أو ما شابه تاركا لذهن الأخير استكمال كثير من التفاصيل فى خياله بدلا من تقديمها له مكتملة. ويعتبر مشهد قتل الضحيّة بطلة الفيلم داخل حوض الاستحمام، الذى يحدث مبكرا فى بداية «سايكو» أشهر جريمة سينمائيّة فى تاريخ الفنّ السابع كلّه، وهو رغم أنّه لا يتجاوز 45 ثانيّة تصويريّة، إلا أنّه على يد ملك التشويق السينمائى استهلك أسبوعا كاملا من العمل، و78 موضعا مختلفا للكاميرا.
فلسفيا، فإن أعمالا مثل «سايكو» ــ وأيضا فيلم هيتشكوك اللاحق «الطيور» الذى يطرح سيناريو موازيا لثيمة «سايكو»، إنما هذه المرّة عبر تحوّل طيور عاديّة فجأة إلى حيوانات قاتلة بلا سبب مفهوم، تقدّم دروسا معرفية ثمينة للمشاهد؛ أقلّها اكتساب نوع من الواقعيّة فى التعامل مع اعتقاداتنا اليقينية (بشأن الأفراد أو التصورات الجماعيّة أو حتى البيئة الفيزيائية من حولنا)، كما إمكانيّة الاستمرار بالمحاولة وبذل الجهد رغم غياب حالة التيقّن التّام من النتيجة، وكذلك عدم الوقوع فى فخّ المنطق البارد لحسابات المخاطر جميعها ذات الوقت على نحو يتسبب للإنسان بالشلل والعجز عن اتخاذ اتجاه ما، وهذه كلها مهارات معرفيّة ثمينة تحتاج لخبرة عمليّة كى تتسرب إلى الوعى، يوفّرها هيتشكوك لمشاهديه دون حاجة خوض مُخاطرات فعليّة.
لقد كان ألفريد هيتشكوك مخرجا استثنائيا قد لا يتكرر فى تاريخ السينما، ولذا تكتسب أعماله راهنيّة طازجة مهما مرّ عليها تقادم الوقت. إذ قلمّا تجتمع أقانيم الحرفيّة المهنيّة للعمل الفنيّ، مع ذلك الفهم المعمّق للسايكولوجيا البشريّة والقدرة على تقديم طروحات وروئ فلسفيّة بشأنها، كما اجتمعت فى تجربته السينمائيّة الشاهقة. هذا رجلّ مكانته محفوظة مع ديكارت، وهيوم وكافكا وكامو، وإن كتب بغير أدواتهم.

الشرق الأوسط ــ لندن

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved