الحلال والحرام والموقف الأخلاقى

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 5 فبراير 2021 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

بحكم عملى وعلاقاتى سافرت إلى معظم دول العالم، فقد زرت بلادًا فى قارة أستراليا وأوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، وكانت أحدى هواياتى المفضلة هو أن أستمع وأصغى فى كل بلد أقوم بزيارته إلى أكثر الكلمات تداولا فى الحياة اليومية، ففى أمريكا مثلا كلمة «أوكى» بين جملة وأخرى، وكلمة «واو» تنطق عند الإعجاب بأى أمر من الأمور، وفى لبنان «يا عيب الشوم» وفى السودان «يا زلمة» عن الرجل لكن يرددونها طوال اليوم... إلخ.
أما التعبير الذى يتردد فى مصر على مدى ساعات اليوم «هذا حلال وذاك حرام»، تعبير: «حرام عليَّ وحلال عليك يا شيخ» وأكثر الأسئلة تسمعها فى التليفزيون والإذاعة والمدرسة والشارع كلمة «هل هذا الكلام أو التصرف حلال أم حرام، أو ما هو حكم الشرع فى كذا وكذا»، وذلك لا يتوقف سواء بمناسبة أو بغير مناسبة ولا إذا كان الشخص مسلمًا أم مسيحيًا، فالاثنان يبحثان عن ما يقولونه أو يرتكبونه هل هو حلال أم حرام، وفى محاولة للتفكير خارج الصندوق تساءلت هل هناك فعل حلال أو حرام بشكل مطلق، أم أن كل تصرف يمكن أن يحتمل الحلال والحرام من وجهة نظر معينة، فهل من السهل إدراك ما هو الحرام وما هو الحلال بدقة شديدة؟، أو ما هو مفهوم الموقف الأخلاقى من نحو أمر أو تصرف ما، ولكى أشرح الأمر بأكثر تفصيلًا ويكون مفهومًا ومدركًا منك ــ عزيزى القارئ ــ سوف أذكر لك بعض القصص الواقعية التى حدثت فى بلدان بل قارات مختلفة وكيف نستطيع أن نحكم عليها.
***
فى كتاب موضوعه علم الأخلاق، يحكى أنه فى عصر المعسكرات النازية عندما كان هتلر يحكم ألمانيا واختلف مع اليهود فساقهم إلى معسكرات من أقسى أنواع المعسكرات فى التاريخ، وكان فى المعسكر راهب مسيحى ورع، وامرأة يهودية لديها ٩ أطفال، ولكى يقوم قائد المعسكر بإذلال الراهب المسيحى والمرأة اليهودية، أمر الراهب أن يزنى مع المرأة، لكن الراهب بالطبع رفض ذلك تمامًا، وهنا قال القائد للراهب إن لم تزن معها سوف ألقيها وأطفالها فى فرن الغاز أمام عينيك، وتكون أنت السبب فى قتلهم جميعًا وهنا حضر الموقف الأخلاقى، ما الذى يمكن أن يقرره الراهب؟ إذا زنا مع المرأة ارتكب خطيئة من الكبائر، وإذا لم يفعل ارتكب خطيئة دفعت المرأة لتُقتل أو كان سببًا مباشرًا فى قتلها، وهكذا يُصبح شريكًا فى عملية القتل، إذن هو وقع بين خطيئتين لا ثالث لهما ولا مفر منهما: إما أن يكون زانيًا أو قاتلًا، والاثنان من الكبائر، بالطبع لم يحكِ الكتاب عن ماذا كان المصير؛ لأن المهم هنا هو الموقف الأخلاقى بين أمرين، كلاهما خطيئة وعصيان لله وضد المبادئ والإيمانية.
تأتى القصة الثانية من القبائل البدائية فى المحيط الهادى، حيث يعيش الناس نصف عرايا، وفى الوقت الذى لم يكونوا قد سمعوا فيه عن الأديان السماوية ذهب لتبشيرهم بالمسيحية شخص قال إنه يُحس بدافع روحانى أو دعوة من الله أن يذهب لهؤلاء الناس البدائيين ويبشرهم بالمسيح، ويدعوهم للإيمان بالمسيحية، وأخذ سنوات ليتقن لغتهم الغريبة وغير المعروفة، وتدرب على تبشيرهم أو دعوتهم بأنه لابد أن يحكى فى البداية قصة السيد المسيح وتلاميذه ببساطة شديدة، فذهب إليهم وتكلم بلغتهم وكانوا سعداء به جدًا؛ لأنه رجل أبيض أمريكى جاء ليعيش فى وسطهم ويحكى لهم عن الإنجيل والسيد المسيح، وبدأ معهم بقصة العذراء مريم وحبلها وولادة السيد المسيح، وكيف عاش وعلم تلاميذه الاثنى عشر، وفى العشاء الأخير قام يهوذا ــ أحد تلاميذه ــ بالوشاية به وخانه بتعريف (الجنود الرومان به ليصلبوه)، وعند هذه النقطة بالذات وقف وسأل الداعية جمهوره ترى من هو البطل فى هذه القصة؟ هل هو سيدنا المسيح أم يهوذا؟! وجاءت الإجابة جماعية وبحماسة وقوة، البطل هنا يهوذا، وأسقط فى يد المبشر، ولم ينبس ببنت شفة، فقد صُدم صدمة عمره؛ حيث وصل إلى نتيجة عكس تمامًا ما كان ينتظره، وترك الجزيرة وعاد إلى أمريكا، وهناك دبروا له لقاء مع شخص مهاجر من نفس القبيلة، وعندما جلس معه وسمع حكايته ضحك وقال الأمر ببساطة إن حضارتنا فى الجزيرة والتى توارثناها عبر الأجيال من آبائنا وأجدادنا أن الشخص الذى يُعطى آخرا، خاصة صديقه، «مقلبا» أو يضحك عليه بطريقة لا يشعر بها المستهدَف إلا بعد وقوعه فى الفخ هو البطل وهو الشجاع والقوى... إلخ، ويوصف بهذه الصفات العظيمة، وإن الذى وقع فى الفخ يستحقه لأنه لم يفهم ولم يدرك ما يحاك له من صديقه. ثم أردف قائلا: «وهذه هى المنظومة الأخلاقية فى قبيلتنا».
***
أما فى مصر هناك قصة واقعية تُعبر عما أريد قوله، عندما كنت أعمل فى محافظة المنيا فى الصعيد مسقط رأسى كان لى صديق يعمل فى مؤسسة حكومية، وكان هناك موظف له ثأر عند موظف آخر فى نفس الشركة، وما حدث فى أحد الأيام أن سكرتيرة الشركة التى تجلس على مكتب داخل باب الشركة مباشرة، دخل أحد الموظفين المعروفين لديها ومعه طرد صغير فى يده على شكل علبة محكمة الغلق وكان مضطربًا ومُسرع الخطى، وألقى بالطرد على مكتبها وهو يركض، وبعد أقل من دقيقة كان موظف آخر يجرى خلفه وفى يده مسدس، وهى تعلم أن هناك قضية ثأر بينه وبين الموظف الذى سبقه، وعندما وصل صاحب الثأر عندها كانت العلبة مازالت فى يدها، فسألها بحدة ما الذى أتى بهذه العلبة هنا؟! إذا قالت فلانا ستكون شريكة فى قتله، وإذا كذبت بصورة أو بأخرى فهى ارتكبت جريمة الكذب وتضليل الرجل الذى سألها، فماذا تفعل؟! بالطبع هنا لا توجد إجابات، لسبب بسيط جدا أنه لا توجد إجابة بذاتها تستطيع أن تقول عليها نعم أو لا، لكن هنا علينا أن نتأمل الموقف الأخلاقى والذى فى الحالتين النتيجة خاطئة، وهنا ينطبق المبدأ الفلسفى فى علم الأخلاق «لا توجد إجابة سهلة لأسئلة صعبة». من هنا كان الشعب المصرى ذكيًا عندما اخترع «الكذبة البيضاء»، لكن أيضًا شعبنا الجميل، مُتشدد دينيًا وسريع الحكم على مثل هذه الأمور، وما أسهل أن نقول هذا حلال وهذا حرام، هذا سيؤدى بنا إلى الجنة وذاك سيؤدى بنا إلى الجحيم، والموضوع فى مثل هذه الحالات ملتبس، وكما نعلم أن القضاة الذين يحكمون فى حالات مثل هذه يحكمون بالوقائع وليس بالنيات، فحسب ما تحكى الوقائع يكون الحكم بغض النظر عن النية السابقة للجريمة، وعما إذا كان الشخص يقصد أو لا يقصد، وهل كان يريد أو لا يريد... إلخ، فالقضاء يحكم بحسب الوقائع المرئية والملموسة، وإن كانت هناك مساحة للقاضى أن يخفف فى حالة عدم سبق الإصرار والترصد مثلًا أو فى حالة الموقف ألا نحكم على الناس بحسب الظاهر، وألا نُشهر سيف الحلال والحرام فى وجوه الناس؛ لأن الله وحده هو العالم بالنيات، والقصد أيضًا.
***
إن الذين يتشددون فى الدين هم الأقل فهما لفكر الله الذى يريد أن يصفح عن الجميع، والذى هو رحمن ورحيم، وهو أيضا محبة وعطاء، وكما قال السيد المسيح «فكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا»، وهناك مقولة بوذية تتحدث بنفس الفكرة لكن بالسلب ففى كتاب بوذا يقول لتلاميذه «ما لا تريدون أن يفعله الناس بكم لا تفعلوه أنتم بهم»، وكما رأيتم أن معظم المواقف ملتبسة بين الحلال والحرام، فلنتدرب على عدم استخدام «حلال وحرام» بهذه السهولة الخرقاء، ويا ليت رجال الدين يرحمونا من هذه اللغة الجافة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved