عبدالرازق حسن والمناديلى.. الوفاء النادر

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 5 فبراير 2021 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

كان أكبر جراح فى الصعيد كله، كل أساتذة وإخصائيى الجراحة يدينون بالفضل له أو لتلاميذه فى علم الجراحة، وفد من قلب الصعيد والوادى الجديد الذى يبعد عن أسيوط قرابة 300 كم إلى طب القصر العينى ليدرس الجراحة على أساطينها ثم يدرسها مرة أخرى فى بريطانيا قبل أن تنشأ جامعة أسيوط التى وضع أساسها الملك فاروق وتم ذلك فى احتفال مهيب.
لحق د/عبدالرازق حسن بالجامعة مدرسا للجراحة، ظل يعلم أجيال الجراحين ويقوم بالجراحات المعقدة غير المعتادة، كانت المرتبات زهيدة، وكانت هناك جراحات فى العيادة يجريها بعشرة جنيهات، أجرى جراحات معقدة لفقراء لم يخبروه بحالهم إلا بعد الجراحة وأنهم لا يملكون شيئا، كان يقول للمريض وأهله «خلاص.. ليست هناك مشكلة، روحوا بالسلامة».
كان رئيسا للجامعة وأجرة الكشف فى عيادته ثلاثين جنيها، أعلى أجر للكشف فى عيادته كان خمسين جنيها عام 2011 بعدها تقاعد لمرضه.
أسد الجراحة فى الصعيد كله الذى وقف على قدميه طويلا فى غرف العمليات وأجرى آلاف الجراحات المعقدة أصبح قعيدا لا يستطيع الحركة من أجل قصور فى عصب بسيط بالقدم اليمنى بعد جراحة غير موفقة فى العمود الفقرى، لم يحقد على تلميذه الذى أجرى له الجراحة، قابل ذلك بالرضا والتفاؤل كعادته، لم تترك الابتسامة وجهه أبدا.
ترقى من عميد لطب أسيوط لنائب رئيس جامعة إلى أصغر رئيس جامعة فى تاريخ مصر فقد كان عمره وقتها 49 عاما، ومكث أطول فترة رئاسة فى تاريخها أيضا، 11 عاما كاملة، كان فيها نظيف اليد، جادا سريع القرار وإنسانى بدرجة كبيرة، لم يتكسب يوما من وظيفته بل تسببت رئاسته للجامعة ومناصبه الأخرى فى إهماله عيادته التى كانت تدر ربحا أكبر من مرتبات المنصب الهزيلة جدا وقتها.
كان د/عبدالرازق يستوقفه بعض الأساتذة فى الشارع فيركن سيارته ليوقع على بعض الأوراق لهم على «كبود السيارة».
كان أ/ قطب المناديلى مديرا لمكتبه، كان معظم قيادات الجماعة الإسلامية الذين يتعاملون مع الاثنين يتصورن أن المناديلى عميلا للأمن وأنه يخدم الناس تقربا للدكتور عبدالرازق، وأنه لا يحبه ولكنه ينافقه ويتقرب إليه لمنصبه.
كان المناديلى عبقريا إداريا يستطيع حل أى مشكلة إدارية فى الجامعة، كل مشكلة لها حل لديه، هذه ملكة لا يملكها الكثيرون، المعقدون للأمور والبيروقراطيون فى مصر كُثر ونموذج المناديلى قليل.
مرت الأيام، خرج د/ عبدالرازق من المنصب، لم يتركه المناديلى لحظة، توثقت صداقتهما أكثر وأكثر، ذهبا إلى العمرة معا أكثر من 20 مرة، يصومان الإثنين والخميس معا، كنا ونحن شباب فى الجماعة الإسلامية لا نتصور أن يكون د/عبدالرازق كذلك، كانت صورته مشوشة مشوهة لدينا، كنت أحترمه كأستاذى وكعالم ضليع، ولكننا تصورناه واحدا من أركانها، وخاصة بعد قبوله لمنصب الأمين العام للحزب الوطنى بأسيوط.
لم نفهم وقتها أن أى إنسان فى أى منصب رسمى هو جزء من منظومة الدولة والحكومة لا يمكن أن يصطدم معها، وأن على الآخرين إذا أرادوا خيره ألا يخيروه بينهم وبين الاصطدام مع الحكومة.
د/ عبدالرازق لم يصطدم بالطلبة أو الأساتذة أو الموظفين، فلماذا نريده فى شقاق مع الدولة والحكومة، الوظيفة لها مقتضياتها.
بعدما أصبح د/ عبدالرازق قعيدا لا يملك من أسباب الجاه شيئا ولا يملك مالا يوازى أصغر جراح الآن ظل المناديلى صديق عمره وأثير روحه وفيا له بطريقة نادرة، لم يفترقا يوما منذ أن تعارفا، عشرون عاما كاملة يلتقيان يوميا، يصومان سويا، يفطران معا، يصليان سويا، يتسامران سويا، وفاء لا محدود.
أصبح د/ عبدالرازق قعيدا لا يتحرك، وإذا بالمناديلى يظهر وفاء لم يحدث من قبل فيذهب إليه يوميا ومعه الطعام الذى جهزته ابنته فيأكلان سويا، يظل معه ليستقبل الضيوف لأن د/ عبدالرازق لا يستطيع فتح الباب، ويأتى بابنته لترتب شقة صديقه، مع أن المناديلى خرج من الوظيفة بدرجة مدير عام.
تأملت ذلك كله وقلت لنفسى: أى خطأ وجرم ارتكبناه حينما أسأنا الظن بالمناديلى، وهل هناك فى هذا الزمان صديق أوفى بصديقه، من المناديلى، فهو أوفى من كل من علمهم أو خدمهم د/عبدالرازق، وأولاده كانوا بعيدين عنه فى أعمالهم وأسفارهم سواء فى مصر أو خارجة، بقى د/ عبدالرازق وحيدا ليس معه إلا الله ثم المناديلى، أى وفاء هذا، وأى سوء ظن وضعف فكر كنا عليه فى شبابنا.
أزمة شباب الحركة الإسلامية أنه يسىء الظن بأى مسئول أولا، ويريد ثانيا من المسئول أن يكون معارضا لدولة أو حكومة هو جزء منها ومن منظومتها، يريدون من شيخ الأزهر أشياء غير معقولة، ويريدون من البابا تواضروس مثل ذلك، ويريدون من الضباط مثل ذلك، مشكلة كثير من شباب الحركة الإسلامية أنهم ليسوا أبناء النص حقا، ولا هم أبناء العصر حقا، فلا أدركوا هذه ولا تلك، فلا هم عاشوا مع النص ومقاصده العليا، ولا هم عاشوا عصرهم ومقتضياته، وما فيه من توازنات قوى معقدة تفرض على الجميع.
كنا نريد أن نشيع جثمان متظاهر قتله الأمن ونطوف بجنازته شوارع أسيوط قبل دفنه، جاء الأمن وخطف الجثمان من مشرحة المستشفى الجامعى بعد أن أطلق وابلا من القنابل المسيلة للدموع فى المستشفى وقبض على أطباء وفرق جموع الشباب الهائج فى المستشفى، غضب الجميع طلابا وأساتذة وجماعات إسلامية، الغاز الخانق كاد يخنق المرضى، لو أننا طفنا بالجثمان المدينة لاشتعلت المدينة أو حرقت أو حدثت اشتباكات لا يعلم عاقبتها إلا الله، كانت مفاسد هذا التصرف شديدة، وكان تصرف الأمن بخطف الجثمان وإطلاق الغاز فى المستشفى غير أخلاقى، ولكنه حمى المدينة يومها من شر مستطير، ورحم الجميع من مصير مظلم، أحيانا الخيارات تكون بين السيئ والأسوأ.
يومها صببنا جام غضبنا على أستاذنا د/ عبدالرازق نائب رئيس الجامعة لشئون الطلاب وقتها الذى لا ذنب له فى هذه المسرحية كلها التى وضع فيها بين رحى الجماعة والأمن، تحملنا الرجل بلطف ومرت الأيام، ولكن العبر باقية، إنه كان مع من هم أحكم وأعقل من شبابنا الطائش.
حينما زرته قبل وفاته بعامين أخيرا حزنت لأنه لا يستطيع فتح باب الشقة، كان معى العميد الأسبق لكلية الهندسة د/محمد محروس الزاهد العالم الورع وجدته يركب سيارة سيات، قلت له: أبعد هذا العمر فى الأستاذية والعمادة تركب هذه السيارة التى لا تساوى 7 آلاف جنيه، فقال: جيلنا لم يتكسب من العلم ونحن سعداء بهذا والحمد لله، ولك أن تقارن بين شقة د / عبدالرازق وشقة وسيارة أصغر مدرس فى كلية الطب.
الزمن والتجارب ما زالت تعلمنا وتربينا، آه يا زمن.. سنظل نتعلم منك، كم تعلمنا من د/ عبدالرازق الطب والعلم والتواضع والحلم والأناة والتفاؤل، ومنذ أيام قليلة ودع أ.د/عبدالرازق حسن الحياة ليترك أجمل الأثر وأطيبه فى عشرات الآلاف من الجراحين والأطباء الذين تلمس بصمته الطيبة عليهم، سلام على الأطباء المخلصين وعلى رأسهم أستاذنا د/عبدالرازق حسن وسلام على الأوفياء مثل الأستاذ الجميل/ قطب المناديلى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved