الاستعمار الاستهلاكي

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الأحد 5 فبراير 2023 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

فى يوم 31 ديسمبر عام 1990 اصطف الآلاف أمام محل ماكدونالدز فى موسكو الذى افتتح لأول مرة فى الاتحاد السوفيتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ميتا إكلينيكيا، ومات فعليا بعد أقل من سنة فى يوم 26 ديسمبر من عام 1991.
افتتاح مطعم ماكدونالدز كان رمزا لانهيار الستار الحديدى واجتياح جحافل الاستهلاكية للعالم الاشتراكى. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى والدول الرأسمالية ظلت تحشد أعتى الأسلحة من قاذفات القنابل الاستراتيجية وحاملات الطائرات والغواصات النووية حاملة الصواريخ متعددة الرئوس للقضاء على الاتحاد السوفيتى وإذا بهزيمة الاتحاد السوفيتى وسقوطه يكون على يد شطيرة لحم!
أكاد أرى العم سام وجون بول يتبادلان الأنخاب فرحا بالانتصار الكبير أمام كارل ماركس وفردريك إنجلز الجالسين أمامهما حزينين منكسى الرءوس، وأكاد أرى أيضا فى خلفية الصورة يجلس آدم سميث حزينا مطرق الرأس فهو لم يرَ فى انتصار الهامبرجر انتصارا للرأسمالية لكنه رأى فيه هزيمة وتشويها لها. فعندما نشر سميث كتابه «ثروة الأمم» فى عام 1776، كان يدعو إلى إخراج الإنسان البسيط من سطوة أمراء الإقطاع وتحكم اتحادات الحرف Guilds التى كانت تسيطر على مصائر الحرفيين المهرة وتستغلهم، وكان يرى أن السبيل إلى ذلك هو الحياة المتقشفة المدبرة frugality التى تمكن الإنسان البسيط من الادخار وتكوين رأسمال يمكنه بالاستقلال بعمله بعيدا عن سيطرة الغير، ولعل هذه الدعوة هى التى أطلقت المقولة الشهيرة المنسوبة إلى نابليون فى وصفه للإنجليز بأنهم دولة من أصحاب المتاجر A nation of shop keepers.
• • •
تزامن كتاب سميث مع مرحلة تسبقه قليلا وتتجاوزه قليلا بأحداث جسيمة، فقد بدأت الثورة الصناعية التى يؤرخ لها باختراع الآلة البخارية على يد البريطانى James Watt فى عام 1776، إلا أن فائدتها بدأت فى التجلى على يد بريطانى آخر هو Edmund Cartwright الذى اخترع نول النسيج البخارى فى عام 1785، ثم كانت القاطرة البخارية والسكك الحديدية بعد اختراعها على يد البريطانى جورج ستيفنسون فى عام 1830، وأخيرا اختراع محول بسمر Bessemer Converter فى عام 1856 الذى أتاح مضاعفة إنتاج الصلب.
أدت الثورة الصناعية إلى تضاعف هائل فى القدرة على الإنتاج وأصبح أصحاب المتاجر الذين بشرهم آدم سميث غير قادرين على حمل أعباء إنتاج الحجم الكبير Mass Production. فنشطت البنوك الكبرى والبورصات فى العمل على إغراء صغار المستثمرين على تسليمهم مدخراتهم لاستثمارها نيابة عنهم. وكانت أول البورصات بورصة امستردام التى افتتحت فى عام 1602 ثم افتتحت البورصات تباعا فى باريس عام 1724 ثم فى لندن عام 1773 وأخيرا فى نيويورك عام 1792. وجمعت البورصات والبنوك مدخرات أصحاب المتاجر لتوظفها فى مشروعات عملاقة تخدم المخططات الإمبريالية للدول الصناعية الكبرى ومنها مشروع قناة السويس ومشروع قناة بناما وشركات السكك الحديدية التى مدت الخطوط فى الهند وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وشركات الاتصالات التى مدت خطوط التلغراف والتليفون عبر القارات والكابلات عبر المحيطات وشركات البترول الذى زاد الطلب عليه بعد أن ظهرت حيويته للغواصات والطائرات والدبابات فى الحرب العالمية الأولى والتى لا يصلح الفحم وقودا لها. وتركزت الثروات فى يد عدد من الأسر مثل روتشيلد وفاندربلت وديبون وروكفلر، وتكونت الشركات الاحتكارية العملاقة مثل ستاندرد أويل وITT وShell التى لم تترك مكانا لصاحب المتجر الصغير الذى اكتشف أنه ما كاد يتحرر من الإقطاع حتى سلم نفسه لأفكار البنوك والبورصات والشركات الاحتكارية الكبرى.
ولم يلبث رفض سيطرة الشركات الكبرى ورأس المال المتوحش والتمرد عليه فى الظهور، وكانت أول ظاهرة نشر كتاب رأس المال لكارل ماركس عام 1867 وتلاه كوميونة باريس سنة 1871 وتشكيل الجماعات الفابيه البريطانية الاشتراكية Fabian Society فى عام 1882، ثم كانت مظاهرة العمال فى ضاحية Haymarket بمدينة شيكاغو الأمريكية فى يوم الأول من مايو عام 1886 التى أطلقت فيها الشرطة النار على المتظاهرين وقتلت عددا منهم وأصبح هذا اليوم عيدا للعمال فى العالم كله إلا الولايات المتحدة التى ترفض الاعتراف بهذا التاريخ وتحتفل بعيد العمال فى يوم الاثنين الأول من شهر سبتمبر. ثم كان الانفجار الأكبر فى روسيا فى عام 1977 بانتصار الثورة البلشفية واستيلاء الدولة على كل الاستثمارات الرأسمالية الدولية.
• • •
تغير شكل العالم تماما بعد الحرب العالمية الثانية، فبعد أن كان الاتحاد السوفيتى وفلسفته الاشتراكية محصورا خلف الستار الحديدى ومنهمكا فى الحرب الأهلية للحفاظ على ثورته، فإذ هو يخرج منتصرا من الحرب وجيوشه مسيطرة على نصف قارة أوروبا ولم تكد تمر أربع سنوات حتى انتصرت الشيوعية فى الصين بقيادة ماو تسى تونج وإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية فى عام 1949. وتلا ذلك حركة التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا وتخلص الدول من السيطرة الإمبريالية، فأمم الدكتور محمد مصدق البترول فى إيران سنة 1951، وأمم جمال عبدالناصر قناة السويس فى مصر فى عام 1956، وعلى عتبة باب الولايات المتحدة قامت ثورة كاسترو الاشتراكية فى عام 1959 وأمم صناعة السكر.
فى سنة 1965 أصدر الزعيم الإفريقى العظيم الدكتور كوامى نكروما، أول رئيس لجمهورية غانا المستقلة، كتابه «الاستعمار الجديد آخر مراحل الإمبريالية»، نبه فيه الدول حديثة الاستقلال أن المشوار ما زال أمامها طويلا حتى تنجز التحرر الحقيقى الذى لن يتحقق إلا بالاستقلال الاقتصادى. سبب كتاب نكروما ردود فعل شديدة فى الدول الإمبريالية حتى أن الولايات المتحدة احتجت رسميا على الكتاب وعاقبت غانا بقطع المعونة الاقتصادية عنها ثم تآمرت بواسطة وكالة مخابراتها المركزية على إسقاط نكروما بانقلاب عسكرى فى عام 1966! وشنت الإمبريالية هجمات حادة مضادة كان أبرزها إسقاط نظام مصدق فى إيران والعدوان الثلاثى على مصر والحصار الذى استمر لأكثر من ستين سنة على كوبا إلا أنها أدركت أن أسلوب السيطرة عن طريق المؤسسات الاقتصادية العملاقة لن يقدر له الاستمرار، فتحول الاستعمار الجديد إلى طور جديد وهو الإمبريالية الاستهلاكية واستخدمت أجهزتها الدعائية والإعلانية الشيطانية فى تكريس مفهوم لزوم ما لا يلزم ودغدغوا الغرائز المحفزة للاستهلاك مؤكدين أن قيمة الإنسان مرتبطة بقدر استهلاكه، وأن الإنسان الروسى لم يذق طعم الحرية إلا مع أول قضمة من شطيرة هامبرجر!
أقنعونا بأن من يتناول الكورن فليكس على الإفطار أكثر تحضرا من الذى يتناول البليلة وأن السفن أب هو مشروب الصفوة والتمر الهندى هو مشروب الغلابة، أزاحت البيتزا الفطير من الأسواق وأزاح الكنتاكى الحواوشى من طريقه؛ وصارت الماركات الاستهلاكية أشبه بمن سيوقفنا ليأخذ أموالنا تحت التهديد، ويكفى أن ندرك ألم أب أنهكته مصاريف المدارس والكتب وهو يتخلى عن مطالب أساسية حتى لا يكسر خاطر ابنه الطفل الذى يرفض الذهاب إلى مدرسة بدون لانش بوكس عليه صورة بات مان أو شخصيات ديزنى أو يكسر نفس ابنته التى تريد فستانا ماركة سينيه للذهاب إلى خطوبة صديقتها وترفض أن ترتدى فستانا فصلته الخياطة التى فصلت فستان خطوبة أمها. لعلنا ندرك حجم الإنفاق على السلع الترفيهية عندما نعلم أن الدمية الأمريكية باربى تبلغ مبيعاتها فى العالم سنويا قرابة 1.2 بليون دولار، وصرنا اليوم نتهادى بالدبدوب فى عيد الحب ولا نُهدى عرائس المولد فى المولد النبوى.
ليس تحت يدى إحصائيات لكنى أجزم أن ما يخرج من مصر من أموال مقابل الماركات الاستهلاكية يفوق ما كانت تدره قناة السويس على بريطانيا وفرنسا قبل التأميم. لقد باتت الماركات الاستهلاكية أكثر سطوة من اللورد كرومر، فمن هى الحكومة التى تقدر على مواجهتها أو منع نشاطها بعد أن باتت قادرة على تأليب الجماهير التى أدمنت الاستهلاك وباتت غير قادرة على الاستغناء عنه مثل مدمنى المخدرات!.
انظر إلى صدر قميصك إلى التمساح الذى يزينه ولا تظن أنه يزيدك بهاء، لكنه يتأهب لفتح فكيه لالتهامك والتهام ثرواتك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved