دعـــــــــــه يفســــــــــد دعــــــــــــه يمــــــــــــر

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأربعاء 5 مارس 2014 - 5:35 ص بتوقيت القاهرة

تطاردنى رغبة جامحة، وأجدنى لا أستطيع الفكاك منها، فى أن أقرأ مضبطة ذلك الاجتماع الذى أقرت فيه حكومة الدكتور حازم الببلاوى، المطاح بها، ذلك التعديل الجهنمى الذى أدخلته على قانون ضمانات الاستثمار. هذا التعديل الذى ينص بمنتهى البراءة على عدم أحقية أى مواطن، فى أن يطعن على أية عقود تبرمها كل أجهزة الدولة مع جميع المستثمرين الذين يعملون فى مصر طبقا لقانونى الاستثمار وسوق المال. وترجمة ذلك التعديل أنه إذا حدث ذات مرة أن مواطنا استشاط غضبا، بعد ما تيقن أن عقدا قد أبرم بين إحدى أجهزة الدولة وبين مستثمر، وشابه فسادا يزكم أنوف كل من يقترب من مكتب ذلك المسئول الحكومى الذى وقع على العقد. واندفع بعدها هذا المواطن الذى أغضبه الفساد، وطعن أمام أحد المحاكم، فلا يكون هناك خيار أمام القاضى سوى رفض الدعوى من أساسها. استنادا إلى أن التعديل (البرىء) الذى أقرته حكومة الدكتور الببلاوى يقضى بأن هذا الطعن ليس من حق أحد سوى الطرفين المتعاقدين. يعنى بمنتهى البراءة المسئول الحكومى والمستثمر هما فقط من لهما حق الطعن على العقد الذى يحمل توقيعهما معا. يعنى الطعن لن يأتى أبدا إلا من أصحاب المصلحة فى أن يظل الفساد، إن وجد، متحصنا بالقانون.

وأقسم أننى لا أريد أن اطلع على مضبطة ذلك الاجتماع من أجل التشهير أو فضح كل من وقع على هذا التعديل، فالتاريخ كفيل بذلك. ولكن من أجل أن تتاح لى ولغيرى فرصة إتقان فن التبرير، والتعرف على أسرع طريق لتحويل الحرام حلالا. وهذه خبرة نادرة تستحق المجازفة بأن يتخيل المرء منا كيف دار هذا الاجتماع.

•••

أكاد أتخيل أن الاجتماع قد بدأ باستعراض وزير الاستثمار السابق أسامة صالح للتعديل المقترح متحدثا باستفاضه عما يعانيه المستثمرون خاصة الأجانب من تداعيات الأحكام القضائية التى أعادت للدولة شركات قطاع الأعمال العام، التى تمت خصخصتها أيام حكم مبارك. وبدا الوزير فرحا، وهو يقدم حلا قانونيا لوقف أى دعاوى فى المستقبل قد يتقدم بها عامل فى شركة سوف يتم خصخصتها من جديد، أو مواطن قد يدفعه حماسه إلى المطالبة بإلغاء عقد بيع إحدى أراضى الدولة لمستثمر بتراب الفلوس. أو خريج زراعة وجد نفسه عاطلا عن العمل بينما آلاف الأفدنة تمنح لمستثمرين يكون من حقهم تحويلها لمنتجعات سياحية. بينما هو يملك يقينا بأنه يستطيع لو تحصل عليها أن يحولها لمزارع قمح وذرة. أو حارس أمن يعمل فى فندق ظل يتقاضى منه مرتبا يأكل منه الشهد. ولكن أغلقه المستثمر مستخدما حقه المنصوص عليه فى عقد مع الحكومة، وجلس على تلة لسنوات طويلة، منتشيا بجبروته متحديا أن يحاسبه أحد سواء على غلق الفندق، أو على حرمان الحارس من أكل الشهد.

ومن المؤكد أن المضبطة لم تسجل كيف كان صوت وزير الاستثمار حزينا وهو يسرد الأحكام التى أعادت للدولة شركات عمر أفندى، وطنطا للكتان، وغزل شبين، والمراجل البخارية، والنيل لحليج الأقطان، والعربية للتجارة الخارجية. ولكن هى حتما سجلت أنه دعا الوزراء إلى التضرع لله بالدعاء، ألا يكلل جهود الطاعنين ضد خصخصة كل من شركتى أسمنت إسكندرية، وأسمنت أسيوط المنظورتين أمام القضاء، بالنجاح. ومن المرجح أنه كان متهللا، وهو يزف لهم خبرا بأن العمال الذين طعنوا على خصخصة شركة أسمنت بنى سويف قد خسروا قضيتهم.

وربما لم يرغب وزير الاستثمار أن ينهى حديثه قبل أن يبشر الوزراء بأن هذا التعديل لو تم إقراره سوف يكون كفيلا بأن يأتى لمصر بعشرات المليارات من الدولارات من المستثمرين الأجانب. الذين يزعجهم كثيرا أن يدس المواطنون المصريون أنوفهم بينهم وبين الحكومة. وما أن أنهى الوزير حديثه واسترخى فى كرسيه، حتى تذكر أمرا كان قد نسيه، فاعتدل مرة أخرى فى جلسته، وقال: ما يعتقد أنه مقنع لكثير من الوزراء، وما يمكن أن يستندوا إليه فى دحض المعارضين للتعديل. فقال إن التعديل سوف يجنب مصر دفع المليارات التى غالبا ما يحكم بها لصالح المستثمرين الذين يرفعون قضايا أمام التحكيم الدولى.

وأكاد أجزم بأنه بمجرد انتهاء الوزير من حديثه حتى بدأت الهمهمات من بعض الوزراء. فهناك وزير، لم تسجل المضبطة اسمه، ما أن دس يده فى حقيبته باحثا عن دستور مصر الجديد. الذى يحتفظ به، حتى يتثنى له أن يفرغ منه، مستغلا الساعات الطويلة أثناء سيره فى الطريق بين بيته ومقر المجلس. وأخرجه حتى وقعت عينيه على المادة التى تنص على أن للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقا للقانون. ثم وجد أنه قد سطر بقلمه الرصاص خطا عريضا على مادة (97) التى تنص على «التقاضى حق مصون ومكفول للجميع، ويحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء». فبدأ الوزير فى قراءة تلك النصوص بحماس وبصوت مرتفع، وأعتقد أنه قدم مبررات معارضته للتعديل بافضل طريقة مقنعة، بل وأكثرها تهذيبا. ولما لم يجد استجابة من الحضور ارتفع صوته قليلا موجها سؤالا مباشرا ألا يتعارض هذا التعديل مع النص فى الدستور على الحق المصون للمواطنين فى التقاضى. وتظاهر ذلك الوزير بالسذاجة، وسأل: كيف أرد على مواطن أقتنع بالدستور، وصدق بأنه من واجبه أن يحمى حرمة المال العام. وعندما أسرع لينفذ نصوص الدستور، ويحمى ما اعتقده حرمات، وجد القاضى يمنعه من هذا الحق. وبشكل مؤثر قال ماذا أقول لذلك المواطن؟

لم يبدُ أن أحدا قد تأثر كثيرا بما قاله ذلك الوزير. وحاول البعض الآخر أن يفحم الوزير بالرد على كلامه بأن جميع النواحى الدستورية والقانونية سوف تنتهى بمجرد عرض هذا التعديل على مجلس الدولة. لأنه لو تم إقرار ذلك التعديل من المجلس، فكان هذا معناه على الفور أننا بمنأى عن المثالب القانونية.

وبدا أن حديث ذلك الوزير الذى رفض التعديل على استحياء، قد شجع وزير آخر كان مترددا فى قول ما لديه. فانبرى ليعلن ما كان قد قرأه فى إحدى الصحف على لسان مدير مكتب منظمة العمل الدولية فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أن تقرير المنظمة لعام 2014 يجزم بأن «تدفقات الاستثمار الأجنبى خلال العشر سنوات الماضية فى منطقة الشرق الأوسط، ومن بينها مصر لم يتم توجيهها إلا لقطاعات محدودة؛ مثل الاتصالات والتعدين والبترول والتشييد. ولم يكن لها تأثيرات إيجابية على نمو الإنتاجية، ولا على تحقيق التنمية. وكانت فى معظمها تعتمد على الدمج والاستحواذ. ولذلك لم تخلق فرص عمل جديدة، وليس لها دور فى التشغيل».

وبالرغم من أن ذلك الوزير لم يجد آذانا صاغية لما يقوله. بل إن بعض الوزراء لم يكلفوا خاطرهم ويرفعوا أعينهم من على أوراقهم الخاصة بوزارتهم. والذى رفع عينه منهم أخفاها وراء نظارته الطبية التى حجب بها ملامح وجهه، فلم تفصح عما إذا كان موافقا على التعديل أو غير مبالٍ به. بالرغم من ذلك لم يخجل الوزير من أن يسرد حيثيات بطلان خصخصة شركة غزل شبين، حيث وجد فى كلام القاضى ما يريد أن يقوله بالضبط. يقول القاضى: «عندما تشوب عملية التعاقد الفساد الفاحش، فإن صمت القضاء عن هذه الجرائم بذريعة الحفاظ على مناخ الاستثمار، لا يكون إلا إنكارا للعدالة، يعاقب عليها القاضى، وكذلك بمثابة عقاب من جانب القضاء لكل من يدافع عن المال العام». ولمزيد من لفت نظرهم قال لهم لا تخشوا من دفع الغرامات لأن القاضى استند فى نفس الحكم إلى أن «السوابق التحكيمية الصادرة عن هيئات التحكيم تنص على أن الدعاوى المبنية على عقود فساد أو عقود تم التحصل عليها بطريق الفساد لا يمكن أن تحظى بتأييد هيئة التحكيم».

وإذا كنا قد عشنا سنوات طويلة قبل ثورة يناير ننعم بمقولات من عينه «دعه يعمل دعه يمر» فقامت الثورة. فما بالنا ونحن نشرع لسنوات سننعم فيها بمبدأ «دعه يفسد دعه يمر».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved