الانتفاضة والكيانية.. ارتداد عن العروبة.. إلى اللبننة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 5 مارس 2014 - 5:20 ص بتوقيت القاهرة

فى الماضى القريب، أى فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، كان عرب المشرق، بدءا من سوريا مرورا بالعراق وصولا إلى الجزيرة العربية والخليج، يأخذون على اللبنانيين «كيانيتهم»، التى صارت تهمة توازى «الانعزالية»، والتبرؤ من الانتماء العربى الذى باتت له تسمية سياسية محددة هى «العروبة».

ولقد عانى العروبيون فى لبنان من اتهام مزدوج:

•داخل لبنان كان الاتهام يطاول وطنيتهم، فيكاد خصومهم ــ فكريا وسياسيا ــ يتهمونهم بالخروج على «كيانهم» الذى صار «دولة» بلا هوية قومية محددة، بل تجمع فى تبريره خليط من الفينيقية والأممية مع إشارة عابرة إلى «العرب» الذين بلغ الأمر ببعض المؤرخين المحليين حد وصفهم بـ«المحتلين».

•أما خارج لبنان فكان بين العرب كثير من «الكيانيين» الذين لم يستطيعوا مواجهة انتصار العروبة فى الخمسينيات فتواروا عن المسرح من دون أن يغيروا مواقفهم.. فلما انتكست الدعوة القومية بسقوط النموذج الوحدوى (الجمهورية العربية المتحدة، التى قامت من اندماج مصر وسوريا فى دولة واحدة) عادوا يرفعون أصواتهم متخذين من الكيانية اللبنانية ملجأ وملاذا.

•••

صار لبنان، فجأة، واحة للحرية السياسية والاقتصاد الحر والفكر والإبداع والتقدم الاجتماعى.. وجاءت إليه البرجوازيات العربية الهاربة من الوحدة والاشتراكية وقوانين التأميم.

صارت التشوهات الراسخة فى الكيان اللبنانى مزايا، وصار لبنان العربى قليلا، الدولى كثيرا، النموذج المرتجى للعديد من المنظرين، بينما أهله يتظاهرون ضد نظامه الطوائفى.

ولقد تلاقت البرجوازية العربية مع بعض اليسار العربى على مخاصمة الوحدة ودولتها بقيادة جمال عبدالناصر، كل لأسبابه.. وجاء الجميع إلى لبنان وعاصمته الكوزموبوليتية: بيروت.

جاء أصحاب رءوس الأموال هاربين من قوانين التأميم التى توالى اصدارها فى دولة الوحدة ــ الجمهورية العربية المتحدة وبعدها العراق.

وجاء الحزبيون، عموما، والبعثيون (السوريون ثم العراقيون) بشكل خاص، بعدما انقلبوا على دولة الوحدة وقيادتها.. وانقلب عندهم جمال عبدالناصر من بطل القومية إلى الدكتاتور قامع الحريات وسجان المناضلين.

وجاء أيضا الشيوعيون الذين كانوا قد مشوا تحت صورة عبدالناصر خلال العدوان الثلاثى على مصر (فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ــ 1956)، وقد وجد السوريون منهم بالذات فى لبنان الملجأ والمنصة للهجوم..

طبعا، جاء قبل هؤلاء وبعدهم، كبار الرأسماليين ورموز البرجوازية الوطنية من أصحاب الثروات أو المصانع وسائر وسائل الإنتاج، ونقلوا ثرواتهم وخبراتهم وعلاقاتهم العربية والدولية إلى لبنان بعدما انتبهوا إلى أنه يصلح لأن يكون الملجأ والمنصة الممتازة للهجوم.

تبدل المشهد، وتلاقى الخصوم القدامى، الحلفاء موضوعيا الآن، جميعا فى ساحة لبنان: الكيانيون بمختلف هوياتهم، يمينيون مغرقون فى كيانيتهم المتصلة بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية (السورى، العراقى، الفلسطينى الآخر ولإخوانى بالذات، وقد انضم إليهم «المصريون البيض» ممن اكتشفوا بعد عشرات السنين أصولهم اللبنانية والتى انتقوا لها مناطق محددة بلونها الطائفى فى لبنان).

تلاقى فى افياء الحرية اللبنانية «الأعداء السابقون» أو «الخصوم العقائديون»: الشيوعيون، الإخوان، البعثيون، البرجوازيون، وكذلك الذين انتبهوا، ولو متأخرين، إلى انتمائهم الطائفى.

هذا عن الماضى «الناصرى» الذى جاءت بعده «عهود» كثيرة فى كل من مصر والعراق وسوريا وليبيا (ويمكن إضافة اليمن)، حاولت فى البداية أن تدعى الانتساب إلى «القومية» بل إن بعضها ظل محافظا فى الدستور الذى اصطنعه لنظامه على المادة التى تنص على أن «بلاده جزء من الأمة العربية» وعلى أن هدفه «التقدم فى اتجاه الوحدة العربية».

هل من الضرورى القول أن كل تلك الادعاءات إنما كانت جسر عبور يضمن «تسكين» الجمهور وتطمينه إلى أن الأهداف الكبرى باقية هى هى، وان «النظام الجديد» ليس إلا عملية تصحيح وعودة إلى الطريق القويم للوحدة والحرية والاشتراكية أو الاشتراكية والوحدة والحرية لا فرق كيفما تم ترتيبها.

ثم بعد دهر تفجرت الأرض العربية بالثورات والانتفاضات، بدءا من انتفاضة البوعزيزى فى تونس قبل أربع سنوات.

انتعشت الآمال بعودة الروح إلى العروبة بوصفها الهوية الجامعة للعرب فى مختلف أقطارهم، ورأى المواطن الطبيعى الذى تتلازم فى ضميره الثورة والعروبة والتقدم فى «الميدان» باعثا لآماله بعودة الروح إلى وحدة المصير ووحدة الهوية بين العرب فى مختلف أقطارهم، لاسيما وكلهم يؤمن أن الثورة هى الطريق إلى غده الأفضل.

بعد أربع سنوات من «الميدان»، وسلسلة انتفاضات أسقطت أنظمة الطغيان فى كل من تونس ومصر وليبيا وخلخلت ركائز أنظمة أخرى، عادت إلى السطح جملة من الأمراض والتشوهات بعضها سابق على قيام هذه الأنظمة وبعضها الآخر وليدها، وان كانت جميعا تصب فى مجرى «الكيانية».. بل لقد ظهرت فى أقطار معينة دعوات انفصال عنصرية. وإذا كانت للأكراد فى العراق «قضية» قد يبررها اضطهاد عهد صدام حسين الذى كان قد اقر بالحكم الذاتى ثم نكل عنه، فليس الحال واحدا مع «الأقليات»، عرقية أو قومية، فى ليبيا أو فى اليمن، وأخيرا فى سوريا ومعها العراق حيث باتت «الطائفية» هى التبرير الأساسى للدعوة الانفصالية.

إن هذه «الأقليات»، إذا ما صحت التسمية، كانت دائما موجودة، سواء اتخذت مواقع دفاعية فى مختلف الأقطار، أو اتخذت موقفا هجوميا كما فى لبنان بدأ ينشر عدواه شرقا وغربا.

وعلى سبيل المثال، فقد أودت خيبة الأمل من «العرب» فى فلسطين إلى ارتداد عنيف عن العروبة إلى القطرية أو الإسلامية أو إلى مزيج منهما معا، وعموما إلى «انفصالية» ما عن العرب والعروبة.

وليس من التجنى القول أن الكيانية عادت تطل من ميادين الانتفاضة وقد موهت نفسها بالشعار الثورى، عائدة إلى شعارات حكم الاستبداد: مصر أولا، تونس أولا، ليبيا أولا، سوريا أولا، العراق أولا، الخليج أولا.

وكأن كل هذه الأقطار صارت «لبنانات» جديدة.

كل ذلك على حساب الهوية العربية الجامعة، وعلى حساب القضية المقدسة فلسطين، وعلى حساب الفرصة التاريخية التى أتاحتها الانتفاضات لتصحيح المسار التاريخى لحركة المجتمع بالعودة به إلى حقيقته الثابتة: أن هذه الأقطار، على اختلاف أنظمتها، تشكل بهويتها الجامعة «وحدة قومية»، إن غفل عنها أهلها فلن يغفل عنها أعداؤها وخصومها فى الخارج والداخل.

هل هذا يعطى كاتبا من لبنان، مثلا، حق الحديث فى الشأن المصرى، أم أن فى ذلك تجاوزا على وطنية المصريين وتطفلا على شؤونهم الداخلية وعدائية تجاه نظامهم الوليد الذى ما زال يبحث عن هويته كما عن طريقه إلى غده؟

وليسمح لى بهذه الملاحظة العابرة، ولكننى لم أستطع أن أقبل من بعض الفضائيات المصرية أن تطلب رأيى فى بعض التطورات الجارية فى هذا القطر العربى أو ذاك، ولكنها تدخلت فيه حين استشهدت بوقائع محددة تدل على الترابط الأكيد بين ما يحدث فى كل من تونس وليبيا ومصر وعلى المقلب الآخر فى سوريا والعراق، وكله يصب فى نهر الفتنة، من دون أن ننسى الخلاف والاختلاف بين طبيعة الأنظمة الجديدة قيد الإنشاء وتلك القديمة، وبينها مجتمعة وتنظيمات الإسلام السياسى، بسلفييه فى «القاعدة» ومحدثيه فى «الإخوان» بمختلف تلاوينهم.

مع التمنى ألا تطول الحيرة فيطول الضياع وتسنح الفرصة لأعداء الميدان والمتضررين منه لتجميع صفوفهم، مجددا، من اجل الهجوم هذه المرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved