توفير العملة الصعبة والسياسة التصنيعية

عمرو عادلى
عمرو عادلى

آخر تحديث: السبت 5 مارس 2016 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

لم يعد خافيا أن البنك المركزى يستخدم أدوات السياسة النقدية لإدارة السياسة التجارية، من خلال تقليص فاتورة الواردات كإجراء ضرورى لتدارك العجز فى ميزانى التجارة والمدفوعات، ومن ثم الضغط المتزايد على الاحتياطيات الدولارية وبالتالى على العملة الوطنية، وفى مسعى لتبرير هذا التوجه سعى المركزى ودوائر مرتبطة به إلى استعراض المكونات الترفية فى فاتورة الواردات مثل الكافيار والشوكولاتة ولحم الطاووس وبيض النعام وغيرها من المنتجات النهائية الاستهلاكية التى حتما يمكن التخلى عنها فى بلد يعانى من أزمة مزمنة فى توفير العملة الصعبة اللازمة لاستيراد الواردات الأساسية من الوقود والغذاء.

بيد أن هناك انطباعا خاطئا حول الحجم النسبى لتلك الواردات الترفيهية، والتى لا تتجاوز فى إجمالها ٣٠٠ إلى ٥٠٠ مليون دولار من فاتورة واردات تجاوزت الستين مليارا أى ما يقل عن ١٪ من الإجمالى. إن الحقيقة هى أن واردات مصر فى مجملها من غير السلع الترفيهية فجزء كبير منها مواد أساسية من الغذاء كون مصر مستوردا صافيا للغذاء، وكذا واردات الطاقة كون مصر قد تحولت منذ ٢٠١٢ إلى مستورد صاف للطاقة مع تصاعد حاجتها لاستيراد الغاز الطبيعى بجانب البترول، وبجانب الغذاء والوقود فإن ثلثى فاتورة الواردات المصرية هى مدخلات إنتاج من الخامات والسلع الوسيطة والسلع الرأسمالية وليس من السلع النهائية ترفيه كانت أم غير ترفيه. ويعتمد قطاع الصناعة بالأخص على السلع الوسيطة والرأسمالية المستوردة، كى يتمكن من الإنتاج سواء للسوق المحلية أو للتصدير.

***
وتعنى من هنا جهود الدولة لتشجيع التعافى الاقتصادى فى القطاع الصناعى بغية خلق فرص عمل زيادة الطلب على المدخلات المستوردة. ويشير هذا الواقع إلى أن مسألة تقليص الواردات، إن أريد بها أن تكون هدفا طويل الأبد لعلاج اختلالات ميزان المدفوعات فى مصر وليس مجرد كإجراء عابر ردا على الأزمة الراهنة، يشير هذا إلى أن المسألة أكبر من الحد من الواردات الترفيهية وأكبر من إشارة محافظ المركزى السابق إلى أن الاقتصاد المصرى قد تحول إلى اقتصاد تجار يعتمدون على الاستيراد دون الإنتاج، بل تدل مكونات الواردات إلى أن قطاع الصناعة فى مصر يعانى من الضحالة، والعجز عن إيجاد روابط خلفية وأمامية من الصناعات التكميلية القادرة على توفير سلع وسيطة ورأسمالية بشكل اقتصادى تنافسى لمنتجى السلع النهائية. وهو ما يعنى أن تقليص فاتورة الواردات كإستراتيجية ـ حال ما كانت بالطبع استراتيجية أصلا ـ يستوجب تعديل السياسة التصنيعية فى مصر بما يصب فى اتجاه تطوير القطاعات المنتجة للسلع الوسيطة والرأسمالية، وخاصة السلع الوسيطة التى لا تستوجب مكونا تكنولوجيا مرتفعا.

إن وضع استراتيجية لتعميق قطاع الصناعة فى مصر مسألة معقدة من الناحية الفنية، ولها متخصصون يمكن أن يسهموا فى صياغة الأشكال الأكثر اقتصادية لتحقيق مثل هذه المهمة. ولكن فى الوقت نفسه من غير المنتظر أن يحدث هذا بدون تنسيق بين رأس المال الكبير الذى يهيمن على أغلب قطاعات الصناعات التحويلية وبين أجهزة الدولة لإيجاد أطر لتنسيق السياسات وتبادل المعلومات ثم الشروع فى ترجمة هذا إلى أطر وبرامج لتعميق الروابط الصناعية سواء داخل المنشأة عن طريق إنشاء سلاسل إنتاج توفر السلع الوسيطة من داخل الشركة نفسها، وهناك بالفعل حالات فى مصر لمجموعات أعمال صناعية كالسويدى للكابلات والإلكترونيات والعربى للأجهزة الكهربائية تقوم ولو جزئيا بتوفير جزء من سلسلة إنتاج لمنتجاتها النهائية، ولكن هناك بدائل أخرى بجانب الاندماج الأفقى وهى إيجاد شبكات تربط رأس المال الكبير بالقاعدة العريضة من القطاع الخاص وخاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة التى قد تتخصص فى إنتاج السلع الوسيطة وتوريدها للمنتجين النهائيين، وهذا هو النموذج القائم فى اليابان على سبيل المثال، حيث يعتمد الكثير من الشركات العملاقة مثل تويوتا أو هوندا على المئات وربما الآلاف من المنتجين الأصغر حجما الذين يملكون الأيدى العاملة الماهرة والتكنولوجيا ويتبنون برامج تضعها الشركات الكبرى للجودة وجداول التسليم وهلم جرا.

وثمة تجارب سابقة يمكن البناء عليها، فجهاز تحديث الصناعة على سبيل المثال، كان يعمل على ذلك الملف فى الفترة السابقة على ثورة يناير، وله نجاحات لا بأس بها فى توفير معلومات عن القاعدة الكبيرة من المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتوفير خدمات لرفع الكفاءة الإدارية والفنية، وهو ما كان يمكن أن يؤدى إلى صياغة قاعدة بيانات وإيجاد أشكال لتبادل المعلومات، وخلق فرص للشراكة مع رأس المال الكبير ومن ثم التنسيق مع الدولة لتقديم أشكال الدعم المختلفة، لتحقيق الدمج والتعميق الصناعى، ومن غير المعلوم ما حدث لهذه التجربة بعد الثورة خاصة أنها اعتبرت فى جملتها مرتبطة بمصالح كبار رجال الأعمال الذين وجدوا يوما حول جمال مبارك، وهو أمر قد يكون صحيحا جزئيا ولكنه لا يعنى أبدا الإجهاز على مثل هذا الإطار المؤسسى الذى جمع فى قاعدته نحو عشرين ألف منشأة مختلفة الحجم.

***
إن الخلاصة هى أنه إذا كان علاج اختلالات ميزان المدفوعات فى مصر تقضى بالعمل على تخفيض الواردات، فإن هذا لا سبيل له أن يحدث دون مقاربة هذه المسألة من خلال السياسة التصنيعية، وعدم الاقتصار على معالجتها بأدوات للسياسة النقدية التى يستخدمها المركزى لتحقيق هدف مالى بحت، بغض النظر عن تداعياته الاقتصادية. وترتبط السياسة التصنيعية بالطبع بملفات عدة كسياسات الطاقة وسياسات التدريب المهنى والتعليم، والتى بدورها ترتهن بإنفاق الدولة على الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم، أى ببساطة شديدة فإن السياسة التصنيعية هى جوهر استراتيجيات التنمية فى أى بلد نامٍ كمصر، وينبغى أن تكون كذلك فى مسألة تخفيض الطلب على العملة الصعبة على المدى البعيد.


خبير وباحث فى الاقتصاد السياسى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved