ذكرى بونابرتة

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 5 مارس 2021 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

بونابرتة هو الاسم الذى أطلقه المصريون على نابليون بونابرت، وذلك عندما رأوه أبيض البشرة قصير القامة، ممتلئ القوام، جميل الملامح، فأطلقوا عليه بونابرتة، والمعروف أن التاء المربوطة (المقفولة) للتأنيث فجميل ذكر وجميلة أنثى، وعلى ذكر وعَلية أنثى، وأمين ذكر وأمينة أنثى.. وهكذا كان بونابرت ذكر بطبيعته، وبونابرتة أنثى بأمر رجل الشارع المصرى لأنه الغازى المرفوض، وبونابرتة كان قائد الحملة الفرنسية على مصر والتى اجتاحتها عام 1798م – 1801م. وقد انتصر نابليون فى أكثر من موقعة بعد تركه وانسحابه من مصر وأخيرًا مُنى بهزيمة منكرة فى موقعة واترلوو، وهى قرية قرب بروكسل عاصمة بلجيكا، وتم نفيه إلى جزيرة هيلانة، ومات مأسورًا مسمومًا حتى لا يعود ثانية ليحكم ويقود فرنسا.
ولعلك تتساءل – عزيزى القارئ – لماذا نكتب ونتحدث عن بونابرتة الآن؟ والإجابة أن فرنسا تقف على قدم وساق لتحتفل هذا العام بأشهر إمبراطور فى تاريخها، وقد خصصت عام 2021م ليكون عام نابليون بونابرت، ونابليون بونابرت كما تعلم – عزيزى القارئ – هو جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر رغم قصر المدة التى قضاها فى بلادنا، إلا أنها كانت مؤثرة جدًا فى المجتمع المصرى، وقبل أن أتحدث عن شخصيته العالمية أردت أن أركز على تأثيره القوى والمختلف عن أى غازٍ آخر مر ببلادنا، وبعد قراءتى عن دول الغزو لمنطقتنا والتى ورثت الغزو التركى العثمانى مثل الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين، تمنيت لو أن فرنسا هى التى قامت بغزونا واستقرت عندنا وليست إنجلترا، هذا إذا سلمنا بأنه لابد من غازٍ للبلاد، وقد عانت مصر منهم بسبب ضعفها وهواننا. وما يميز فرنسا كمُستعمِرة دونًا عن باقى الدول المستعمِرة الأخرى أنها كانت تهتم بتثقيف الشعوب التى استعمرتها، وهذا واضح فى بلاد شمال إفريقيا: تونس والمغرب والجزائر، وهذا هو الفارق بينهم وبين ليبيا التى احتلتها، إيطاليا، والشرق العربى الذى احتله الإنجليز. كانت الحملة الفرنسية على مصر تحمل مطبعة وفنانين وعلماء ومؤرخين... إلخ، إنها رحلة اكتشاف ومحاولة تطوير بجوار السبب الرئيسى وهو سلب ثروات الشعوب، والتحكم فى العالم من منطق القوة، وتأسيس إمبراطوريات، وكان نابليون هو أول من فكر فى حفر قناة تصل البحر الأبيض بالأحمر لكنه لم يستمر ليحقق فكرته، وهو أول من اهتم علميًا برسم خريطة لمصر فقام علماؤه برسم الخريطة وبتأليف موسوعة «وصف مصر» والتى تتكون من ٢٠ مجلدًا بها وصف واقعى للشعب المصرى والأرض والعادات والتقاليد. وقام الفنانون برسم رجال ونساء مصر فى ذلك الوقت، وكذلك الشوارع والحوارى والبيوت والقصور... إلخ، ولأول مرة فى التاريخ تشبهت النساء المصريات بالفرنسيات بحرية الملبس ووضع برانيط على رءوسهن.. إلخ وكذلك بعض الرجال الذين حاولوا تقليد الفرنسيين، ولقد تم كشف حجر رشيد ونقله إلى فرنسا وحل رموزه ولغته بواسطة العالم الفرنسى شامبليون الذى فك أسرار لغة الفراعنة، وفى نهاية حكمهم لمصر وانسحابهم جاء محمد على والذى أسس مصر الحديثة من خلال ملاحظاته الحضارية التى رصدها، فى الفارق الضخم بين المماليك والأتراك من ناحية وبين الفرنسيين من الناحية الأخرى، واختار أن يطور مصر على غرار فرنسا وليس على غرار الدول الشرقية.
***
إذا قمت ــ عزيزى القارئ ــ بزيارة لفرنسا هذه الأيام سوف تجد لوحات فى كل مكان تصور نابليون وجوزفين أشهر زوجة له، والتى كانت قد تربت فى دير للراهبات حيث تعلمت الإتيكيت والخط والرسم والتطريز والرقص والموسيقى، وكانت جوزفين من النساء الأحرار التى تنتقل بين الرجال وخاصة الأغنياء منهم والأمراء، إلا أن نابليون لم يهتم كثيرًا بماضيها عندما أُعجب بقوامها ولون عينيها رغم أنها أكبر منه سنا فقد كان فى السابعة والعشرين وهى فى الثالثة والثلاثين عندما تزوجها، ومن أشهر ما كتبه لها «كل شىء فيك يعجبنى.. حتى عندما أتذكر ما ارتكبتيه من خطايا وأخطاء» وهكذا تزوجها عام 1796م أما أكثر الشخصيات النسائية التى أثرت فى نابليون فكانت أمه فقد كتب عنها يقول: «إننى مدين بنجاحاتى وبكل عمل طيب قمت به لأمى ومبادئها الممتازة.. إننى لا أتردد فى التأكيد على أن مستقبل الطفل يعتمد على أمه». لقد كانت أم نابليون فى منتهى الصرامة والاستقامة وكانت تعشق من بين أبنائها نابليون لذلك كانت تشاركه الابتهاج عندما ينتصر والحزن العميق عندما تحل عليه الكوارث والهزائم، عينها نابليون «الإمبراطورة الأم» إلا أنها كانت محافظة بصرامة ولا تستهلك الأموال والأشياء بطريقة مسرفة، وقد قيل عنها إنها كانت تفعل ذلك تحسبًا لظروف صعبة كانت تتوقعها لابنها المحبوب نابليون، وقد حدث ذلك بالفعل عندما هُزم نابليون وتم نفيه، فذهبت معه إلى جزيرة «إلبا» وفى عام 1818م قدمت طلبًا لحكام أوروبا بإطلاق سراحه من جزيرة «سانت هيلانة» بعد هزيمته، بسبب الأمراض التى يعانى منها لكن لم يستجيبوا لها.. لقد مات نابليون فى حياتها وهذه أصعب تجربة يمكن لأم أن تجتاز فيها.
من الأمور الهامة جدا التى يجب أن ننتبه لها فى شخصية نابليون هى نظرته للمرأة بعد طول العلاقة معها وكذلك رؤيته للعلاقة الرومانسية، فقد رفض تمامًا قصة الرومانسية بعد أن وقع صريعًا لها فى شبابه.
***
بالعودة إلى مصر نجد أن وصول بونابرت لمصر كان بمثابة فتح نافذة لمصر على العالم ونافذة للعالم على مصر فقد عاشت مصر تحت الحكم التركى العثمانى لمدة ٥٠٠ عام وراء الشمس، وبقراءة كتاب وصف مصر نلاحظ أن المصريين كانوا يجلسون فى الشوارع يتكئون على الحوائط وقد صورهم فنانو الحملة حُفاةً أو يلبسون (المراكيب) ويحاربون المدافع الفرنسية التى وصلت عند بولاق بالهتاف «يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف».. كانت الحملة الفرنسية مرحلة انتقالية بين انهيار الخلافة العثمانية والانفتاح على الغرب وتأسيس مصر الحديثة من خلال محمد على الذى اختاره عمر مكرم ليكون واليًا على مصر، واستطاع محمد على أن يتخلص من المماليك فى مذبحة القلعة.
من الأمور التى رصدها كتاب «وصف مصر» مدى الفقر الذى كانت تعيش فيه مصر فى ذلك الوقت.
من القصص الطريفة التى تُحكى عن نابليون قصة كلب جوزفين الذى كان ينام معها فى الفراش، وحاول نابليون التخلص منه لكنه فشل لأنها أصرت على وجوده معهما وقد استسلم لرغبتها فى ذلك. وهذه القصة تقول الكثير.
أما الأمر الثانى فبقدر تسيبه فى العلاقات النسائية بقدر ما كان منضبطًا عسكريًا وهناك قصة مشهورة عنه، أن فرقة عسكرية تابعة لنابليون تم حصارها من الإنجليز وكان المفروض أن يُقتَلوا جميعًا، إلا أن أحد الجنود اقترح على زملائه خطة للهرب ونجحت خطته وتم نجاة الفرقة جميعًا بسببه، وقد رحب نابليون بهم وببطولتهم وتفانيهم، وطلب أفراد الفرقة منه أن يقوم بترقية الجندى صاحب خطة الهرب من العدو إلى رتبة أعلى، فطلب منهم أن يُعطوه مهلة ليجيبهم على طلبهم، وبعد انتهاء المهلة جمع الفرقة، ومدح الجندى وقال كنت أتمنى أن أصدر أمرًا بترقية الجندى لرتبة أعلى لكنى سأكتفى بإعطائه منحة مالية ضخمة، ولما سألوه لماذا لم تقم بترقيته قال إن المهلة التى طلبتها لتحقيق طلبكم كانت لمراقبته دون أن يشعر، لقد جاءت لى الأخبار فى نهاية المدة أنه غير منضبط عسكريًا، فهو لا يلتزم بمواعيده، كذلك ثيابه العسكرية غير محكمة على جسده، لذلك هو يستحق مكافأة ولا يستحق ترقية. إن الانضباط جزء من شخصية الجندى، ومن شخصية الإنسان على وجه العموم فى أى موقع كان.
فهل تنتبه ــ عزيزى القارئ ــ لحديث نابليون؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved