أُعزيكُم ولكن

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 5 مارس 2021 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

خلال الأشهر الماضية؛ توالى رحيلُ معارف وأصدقاءٍ وأساتذة، بعضُهم حظى في حياتِه بشُهرة واسعةٍ لعملِه وأثرِه؛ فطاب ذكره أو خاب، وبعضُهم عاش ينعم بهدوءٍ وسَكينةٍ؛ فلا أضواء ولا أزمات.
***
دأب الناسُ على مُشاطرةِ بعضهم البعض ما جَدَّ من أحزانٍ وأفراح، كلمةٌ هنا وأخرى هناك؛ برقيةٌ أو زيارةٌ أو مُهاتفةٌ فيما مضى، ومَنشور ومُشاركة ودمعة أو إعجابٌ في عصرِ الفضاءِ الافتراضيّ. مُجاملاتُ تضفي على الحياة صبغةً أكثرَ إنسانية؛ فتخفف مِن أحاسيسِ الوِحدةِ والألمِ والعجْز، أو تُزيد من مَشاعر الفرحِ والانبساط.
***
إذا تُوفيَ شخصٌ عاديّ، لم يُسعده الحظَّ بنجوميةٍ وتألُّق؛ بات الأمر مُريحًا، فعباراتُ التعزيةِ هنا سهلةٌ مَوفورة، لا تحتاج مُراجعةً وتدقيقًا، ولا تستوجب فحصًا للمُحتوى والمَغزى. تختلف الحالُ عند وفاةِ شخصيةٍ عامةٍ حملت توجهًا سياسيًا أو فكريًا يحده قوسان. يقع المُعزون في حيرة من أمرِهم؛ فالراحلُ كان له مَوقفٌ، والمَوقفُ له أنصارٌ، والأهم أن له رافضين ومُعارضين. قد يُؤخَذ نعيُ الرَّجلِ بكلماتٍ طيبةٍ خالصة؛ على مَحمَلٍ غير مَرغوب، أما ذمِّه في مَوتِه؛ ففعلٌ في عرفِ الأسوياء من الناس؛ لا يليق.
***
في رحابِ مَواقع التواصل الاجتماعية التي سهّلت أداءَ الواجبات الثقيلة، وأزالت حرجَ الغياب والحضور؛ يكتب كثير الحائرين عباراتٍ يشاركون بها في نعي الفقيد مَحَلّ الخلافِ، ويؤازرون الأهلَ والأصحابَ؛ لكنهم لا يكتفون بتطييبِ الخواطرِ وجبرِها؛ إذ يدفعهم الخوف من ردودِ أفعالِ الآخرين إلى مَسلكٍ عجيب؛ يتنصلون فيه من المَنعي بوضوح، وبما يُزيل اللبسَ المُحتملَ، ويقطع الطريقَ على الشكوك، بل ويرد كيدَ المُتربصين. على الناعي أن يقر بأن نعيه لا يعني شبهةَ تأييد أو اقتناع؛ بل مَحض واجبٍ فرضته الظروف. البعضُ يزيد في بيان اعتراضِه فيسرد ما أخذ على الفقيد في حياته من سقطات، وما سجَّل له مِن هنات، ما فعل خطأ وما لم يفعل، وكيف ضلَّ عن الجمع أو انحرف عن المَسار الرشيد، وكأن المراد أن يحمل النعي عبارة من قبيل: "له الرحمةُ مع التحفُّظاتِ التالية".
***
في هذا الإطار؛ صادفت على الصفحات الإلكترونية منشورات لا حصر لها؛ تحمل خليطًا غريبًا من المفردات المتنافرة؛ ترحمًا واستعلاءً، كرًا وفرًا، تعاطفًا وغضبًا وغيظًا، وفي مُجملها تبدو من الركاكةِ المعنويةِ بمكان.
***
ذعر عديد المتواصِلين مما قد ينالهم مِن تجريح، وتسابقهم على تبريرِ مشاعر حريّ بها أن تحتفظ بصفةِ التلقائية، وما يبذلون من مُحاولات للتطهُّر، والتماس الأمان عند المُمسكين بالعصا والملوحين بسوط الوصم؛ إنما هي أعراضُ التحول من خانة البشر إلى خانة المُسوخ. ليست الحال بمُستهجَنةٍ وقد تراضينا مِن قبل على أحكامٍ مُطلقة نصدرها في غمضةِ عينٍ ولا نقبلُ ردَّها، ومُرافعاتٍ انفعاليةٍ ساذجة نتبارى في صوغِها وتزيينها؛ لعلها تضعنا في مَصافِ العارفين، وانتقادات مُسطحة خائبة نعدها فخرًا فيما لا تحملُ قيمة.
***
إعلانُ الموقف مَطلوبٌ بل واجب، والاشتباك مع وجهاتِ النظرِ المُتباينةِ فعلٌ صِحيٌّ، وتوجيه النقدِ المَوضوعيّ مهما بلغت قسوته مَقبول؛ لكن هذا وذاك ليس محلَّه نعي. النعيُ لا يحتملُ استدراكًا ولا تلزمُه جملةٌ اعتراضية. في الزمن الآتي مُتسع، وفي مساحاتِ التفاعل الأخرى براح، والحق أن المرءَ لا يحتاج إلى أسباب ومبرراتٍ كي يمارسَ طبيعته كإنسان ولا إلى صكِّ غفران؛ فثمَّة أشياءٌ منبتة الصلة بالتنافُر السياسيّ والجدل الفكريّ، لا يجب أن تؤطرها الخلافاتُ وتفسدها. المرضُ والموتُ أوجاع لا مفرَّ منها ولا مَهرب؛ إنما فضلها أن تعيدَ الناسَ إلى أنفسِهم، تفسح مساحات رحبة في صدورهم، وتلين ما تصلَّب في أذهانِهم، وتحثهم على المُراجعةِ والتأني والتدبُّر.
***
بئس ناعٍ يعتذر ضِمنًا عن نعيه، وطوبى لمَن أمسى حرَّ الكلمةِ شجاعًا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved