حيرة أمام أزمة أوكرانيا

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 5 مارس 2022 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

الحيرة هى حيرة جانب كبير من المراقبين من دول الجنوب. الحيرة مصدرها أى المعايير ينبغى اتخاذها مقياسا لتحديد المواقف من الأزمة الأوكرانية ومن اجتياح القوات الروسية لأراضى أوكرانيا، من جانب، ومن أصول الأزمة المتمثلة فى الخلاف الروسى ــ الأطلسى حول حق أوكرانيا فى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى وحق الحلف فى نشر أى أسلحة يريدها فى أقاليم أعضاء الحلف المتاخمة لروسيا أو القريبة منها، والذى تعتبره الأخيرة تهديدا لأمنها، من جانب آخر. الذاكرة التاريخية مصدر آخر للحيرة.
بمعايير القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، الاجتياح الروسى لأراضى أوكرانيا عدوان لا يمكن قبوله بأى حال من الأحوال، وهو انتهاك صارخ لواحد من مبادئ المنظمة الدولية الواردة فى الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاقها وهو الامتناع عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضى أو الاستقلال السياسى لأى دولة. احتجت روسيا بالمادة 51 من الميثاق التى تمنح كل دولة الحق فى الدفاع عن نفسها حتى يتخذ مجلس الأمن، وهو الهيئة المختصة، التدابير الكفيلة بحفظ السلم والأمن الدوليين. لم تقتنع أغلبية معتبرة بلغت نحو ثلاثة أرباع أعضاء الأمم المتحدة بالحجة الروسية، حيث لم يقع هجوم مسلح على روسيا يبرر دفاعها عن نفسها، فاعتمدوا فى الجمعية العامة المنعقدة فى دورة استثنائية طارئة قرارا بعنوان «العدوان على أوكرانيا» طالبوا فيه روسيا بسحب قواتها من أوكرانيا وبالرجوع عن اعترافها بالجمهوريتين الانفصاليتين الواقعتين فى جنوب شرق الأراضى الأوكرانية. زاد الرئيس الروسى الطين بلة عندما حرض القوات المسلحة الأوكرانية على الانقلاب على النظام السياسى الأوكرانى وهو تدخل سافر فى الشئون الداخلية الأوكرانية يعتبر انتهاكا للفقرة الأولى من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التى تنص على مبدأ المساواة فى السيادة بين كل الدول الأعضاء فى المنظمة الدولية. المراقبون من دول الجنوب، خاصة من عالمنا العربى، لا يمكن أن يتخذوا مواقف مختلفة عما نص عليه القرار، هم الذين تعرضت منطقتهم وبلادهم لاعتداءات قريبة وبعيدة ولاحتلالات مازالوا يعانون منها.
بالإضافة إلى الانتهاك الصارخ للقانون الدولى ولميثاق الأمم المتحدة فإن ثمة اعتبارا آخر يجعل المراقبين المذكورين يتخذون موقفا متهيبا من أن تنجح روسيا فى فرض رؤيتها وتقديرها على جيرانها، بما فى ذلك رؤيتها للسياسة ولأنظمة الحكم. رؤية روسيا الحالية للسياسة هى رؤية موروثة عن الاتحاد السوفيتى، والأهم من ذلك، عن روسيا القيصرية، وهى رؤية سلطوية لا تعبأ بالتعدد وتكبته. هذه رؤية لا يقبلها المراقبون الداعون للديمقراطية والتعددية ولاحترام الناس فى جماعاتهم وفى فردية كل واحد منهم، بلا تعارض يرونه بين الجماعة وكل فرد مكون لها. هؤلاء المراقبون حريصون أيضا على احترام المبادئ الواردة فى ميثاق الأمم المتحدة، ولذلك فهم يعتبرون أن اعتماد الجمعية العامة للقرار المذكور أعلاه، الذى يستنكر الاجتياح الروسى لأراضى أوكرانيا، له أسسه الوجيهة.
ومع ذلك فثمة معايير أخرى تجعل اتخاذ المواقف من الأزمة الأوكرانية أمرا محيرا. هذه المعايير لا تعفى الطرف الأوروــأطلسى بزعامة الولايات المتحدة من المسئولية عن نشوب الأزمة الحالية وعن الخطر الذى يهدد ما يطلق عليه هذا الطرف «النظام المستند إلى القواعد» ويعلن تمسكه به وإعلاءه. النظام المقصود هو النظام الدولى، ولذلك فإننا سنعتبر فى هذا المقال أن القواعد المشار إليها هى قواعد السلوك المعتمدة فى النظام الدولى.
• • •
من غير تكرار ممل لما ورد فى هذه المساحة من «الشروق» الغراء منذ ستة أسابيع مضت، فإن ضم الدول التى كانت أعضاء فى حلف وارسو ودول البلطيق الثلاث إلى حلف شمال الأطلسى، فى خروج على ما وعد به الرئيس بوش الأب الرئيس الروسى ميخائيل جورباتشوف، من أسباب الأزمة الحالية وقد حذر من تبعاته منذ خمسة وعشرين عاما نفس سفير الولايات المتحدة فى موسكو فى نهاية القرن الماضى. انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى فى سنة 2019، ثم تكرار التشديد على حق أوكرانيا فى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى فيهما ما يمكن أن يبرر لروسيا الشعور بتهديد أمنها. انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسى يعنى إحكام حصار روسيا من الشمال والغرب. صحيح أن أعضاء الحلف الأطلسى يكررون أنه لا نوايا عدوانية لديهم تجاه روسيا وأن حلفهم محض دفاعى، ولكن هل يكفى هذا التكرار لطمأنة روسيا؟ وزير الخارجية الأمريكى الأسبق والأشهر هنرى كيسنجر دعا روسيا إلى ألا تحاول غزو أوكرانيا وضمها، ولكنه وفى الوقت نفسه ذكَر بلاده بخصوصية أوكرانيا بالنسبة لروسيا ونبه إلى أن التاريخ الروسى نفسه بدأ فى أوكرانيا وعلى ذلك لا يمكن لروسيا أن تعتبر أن أوكرانيا مثل أى بلد غريب آخر. كيسنجر دعا إلى أن تكون أوكرانيا جسرا بين روسيا والغرب الأطلسى وليس أن تنضم إلى أى منهما. تفسيرنا هو أن سيادة أى دولة لا تعنى اختيار الدخول فى أى علاقات أو تحالف بصرف النظر عما يراه الآخرون حتى أقربهم. السيادة تمارس فى حدود المواءمة السياسية الداخلية والخارجية.
أما عن قواعد السلوك فى النظام الدولى فمبدأ وجودها أساسى بالنسبة للمراقبين من دول الجنوب الداعين إلى الديمقراطية. ولكن تمسكهم بمبدأ القواعد هو تمسك نقدى. النقد يتناول القصور فى القواعد السارية التى تنقصها الديمقراطية، وضرورة علاجها بإدخال مزيد من الديمقراطية على حوكمة العلاقات الدولية، وهذا شأن واسع يتعدى موضوع هذا المقال. ولكن النقد يتعلق أيضا بالاحترام التاريخى لهذه القواعد من جانب التحالف الأطلسى، وعلى رأسه الولايات المتحدة والقوى الاستعمارية السابقة، بل والتطبيق التمييزى لبعض هذه القواعد فى أثناء الأزمة الحالية نفسها وبما يهدد وحدتها.
دول الجنوب عانت تاريخيا من عدم احترام سيادة شعوبها على أقاليمها وعلى مواردها الطبيعية. هذه المعاناة كانت على أيدى الولايات المتحدة وحلفائها. هذه الدول، خاصة فى إفريقيا، عانت من الاستعمار، ولم تتخلص من التخلف والتبعية الناتجين عنه. أما تفاصيل الاستهتار بسيادة شعوب الجنوب فهى تتعدد والأمثلة عليها من جواتيمالا إلى فيتنام إلى شيلى إلى جرانادا، وفى منطقتنا العربية فلسطين والعراق والجولان السورى الذى تعترف الولايات المتحدة بحق إسرائيل فى ضمه إليها، ما يشكل انتهاكا ما بعده انتهاك لقواعد السلوك المعتمدة فى النظام الدولى. أما فى وقت الأزمة الحالية، فالتقديرات هى أن مليونا من الأوكرانيين لجأوا إلى الدول المتاخمة فى شرق أوروبا طلبا للحماية الدولية فيها، وهذا حق إنسانى أصيل لهم لا بد من تمكينهم من ممارسته. ولكن ممارسة هذا الحق تقترن بالعنصرية فتجد تمييزا فيه فى أوكرانيا نفسها وفى دول اللجوء بين أصحاب البشرة البيضاء من الأوكرانيين، وبين أصحاب البشرة السمراء والسوداء من العالم العربى ومن القارة الإفريقية. زد على ذلك أنه فى يوم الخميس 3 مارس أعلن الاتحاد الأوروبى عن إضفاء الحماية المؤقتة على كل اللاجئين الأوكرانيين ومنحهم الحق فى العمل فى الدول التى لجأوا إليها. هذا وضع شبه مثالى نرجو أن يهنأ اللاجئون الأوكرانيون به. ولكن تذكر ما حدث للاجئين السوريين وغيرهم منذ بضع سنوات. الحماية المؤقتة وغيرها لم تمنح إلا بشق الأنفس لبعض هؤلاء اللاجئين وحقهم فى العمل لم يعترف به إلا تباعا لمن حصل على هذه الحماية. نخلص من هذا إلى أننا أصبحنا عمليا أمام نظامين مختلفين لحماية اللاجئين: نظام للاجئين الأوروبيين ونظام آخر لمن عداهم من اللاجئين. هل هذا هو احترام قواعد السلوك فى النظام الدولى أم هو تقويض لها؟
• • •
الحيرة بين المعايير يبدو أنها داخلت دول الجنوب نفسها ويمكن اتخاذها تفسيرا لتصويت هذه الدول على قرار «العدوان على أوكرانيا» الذى اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة. صوت لصالح مشروع القرار 141 دولة وضدها خمس دول وامتنعت خمسة وثلاثون دولة عن التصويت وغابت عنه أربعة عشر دولة. سوف نعنى بشكل خاص بمجموعتين من الدول، تلك الممتنعة عن التصويت، التى لا هى استنكرت الاجتياح الروسى ولا هى أيدته، وتلك التى تغيبت عنه. لكل دولة امتنعت أو تغيبت أسبابها الخاصة بعلاقاتها الخارجية، ولكننا إجمالا نعد أن الامتناع عن التصويت تعبير عن الحيرة، والتغيب عنه حيرة أيضا ممزوجة بالإحراج والرغبة فى تفادى المواجهة سواء مع مقدمى مشروع القرار، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أو مع روسيا. الممتنعون عن التصويت والمتغيبون عنه يجيئون من المناطق الخمس للأمم المتحدة، ولكن يلفت النظر بشدة أن 44 فى المائة من الدول الممتنعة عن التصويت هى دول إفريقية، وأن إجمالى الدول الممتنعة والمتغيبة عن التصويت تمثل الدول الإفريقية خمسين فى المائة منها، بينما لا تتعدى نسبة الدول الإفريقية من إجمالى أعضاء الأمم المتحدة الثمانية والعشرين فى المائة. إن لم يكن فى هذا التوزيع بينة على تشكك الدول الإفريقية فى صدق دعاوى الولايات المتحدة وحلفائها بشأن احترام قواعد السلوك فى النظام الدولى نتيجة للاستعمار الذى عاشته وللتبعية التى مازالت تعانى منها فهى فرضية قوية تستحق البحث فى سلامتها.
قواعد السلوك فى النظام الدولى، وهواجس الأمن المشروعة، والذاكرة التاريخية عوامل فى اتخاذ المواقف من الأزمات الدولية. التنازع بين هذه العوامل يولِد الحيرة.
لعل الدول الكبرى تتنبه إلى وزن كل من الذاكرة التاريخية، واحترامها هى لقواعد النظام الدولى فى اتخاذ المواقف من الأزمات الدولية.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved