مسرح «اللانظام» العالمىّ

آخر تحديث: الأحد 5 مارس 2023 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

قليلا ما عرفت شعوب البلدان العربيّة إحساسا بانسداد الأفق كالذى تشهده اليوم. لكن بالطبع باستثناء بلدان الخليج العربى التى تعيش حالة نشوةٍ غير مسبوقة إثر فورة إيرادات النفط وتغيّرات جوهريّة حديثة فى السياسات القائمة.

إنّ الإحباط لا يخصّ فقط البلدان العربيّة المتوسطيّة (مجازا وإن شملت العراق والأردن واليمن والسودان وموريتانيا)، بل مناطق كثيرة أخرى من «العالم الثالث»، انطلاقا من أفريقيا، التى يُقال أنّها القارّة الواعدة، وحتّى أمريكا اللاتينيّة وآسيا. تتوالى الأزمات الطبيعيّة، كجائحة الكوفيد 19 والزلزال، أو أزمات من فعل البشر أنفسهم، كأزمة الغذاء العالميّة من جرّاء الحرب فى أوكرانيا وعليها، وتلوح فى الأفق أزمات أخرى، كالأزمة المناخيّة.

بالتأكيد يقع اللوم على مسئولى سلطات وحكومات الشعوب المعنيّة فى عدم بناء قدرات بلادهم خلال عقودٍ طويلة على قاعدة النموّ وعلى تعزيز المناعة وقدرة التكيّف مع الأزمات الداخليّة والخارجيّة. ولكن يحقّ أيضا التساؤل عن دور «النظام العالمىّ» وعمّا إذا كان قد فقد رشده وعمّق الأزمات إلى درجةٍ لا يُمكِن التكيّف معها؟
• • •

لقد نشأ نوعٌ من «النظام العالمىّ» على مآسى ضحايا الحرب العالميّة الثانية وما جلبته من دمار. ضحايا ودمار حلّا فى أوروبا وفى الشرق الأقصى، أكثر من غيرهما. وتأسّس مع قيام منظّمة الأمم المتحدة على بناء السلام، أو بالأحرى على أساس توازن رعبٍ نوويّ بين قوى «عظمى» بحيث يتمّ تجنّب الحرب المفتوحة، وعلى إنهاء الاستعمار المباشر ودرء الفاشيّة، عبر إعلان حقوق الإنسان وحقوق الشعوب.

لم يكبح هذا النظام الحروب، كحرب كوريا التى نشبت سريعا، ولكنّه ضبط آثارها على بقيّة البلدان. ثمّ تحوّلت الصراعات تدريجيا إلى صراعات اقتصاديّة وماليّة، أدَّت فى النهاية إلى صعود الصين وانهيار الاتحاد السوفيتى. لكنّ «النظام العالمىّ» انهار أيضا مع هذا الأخير وغاب معه الحدّ الأدنى من الاستقرار الذى يُمكِن أن يتيح بعض هامش المناورة لدول العالم الثالث.

ثمّ زال الاستقرار كليّا منذ الغزو الأمريكى للعراق، الذى تبع أحداث 11 سبتمبر والتى لا دخل للعراق بها، ثمّ مع انفجار الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا والصين بشكلٍ مفتوح فى أوكرانيا وبشكلٍ كامنٍ فى بحر الصين، ومما يهدّد بتخطّى عتبة الحرب النوويّة. هكذا لم يعُد اليوم هناك «نظام عالمى»، لا متعدّد الأقطاب ولا ذى قطبٍ واحد... بل صراعٌ مفتوح يبحث عن.. توافق ما بعد الخراب.

اللافت فى هذه المرحلة أنّ شعوب الدول العظمى المتصارعة، خاصّةً فى الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة، منخرِطة فى منطق الصراع، فى حين كانت فى الماضى تتجمهر صاخبةً ضدّ الحرب، بل شكّلت أيضا سندا أساسيا لنضالات الشعوب للتخلّص من الاستعمار. ولوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى و«مراكز الأبحاث» التى تهيمن عليها مصالح معيّنة أثرٌ فى ذلك، رغم الزيادة الملحوظة فى حريّة التعبير. هكذا تسود متلازمة «نحن ديموقراطيّات والآخرون ديكتاتوريّات»، وكذلك «نحن شعوب مواطنة والآخرون قبائل ومكوّنات»، كما سادت يوما ما ثنائيّة (متلازمة) «نحن متحضّرون والآخرون همج يجب تحضيرهم عبر استعمارهم، ولو لفترة»(!).

اللافت أيضا هو أنّ الصراعات الاقتصاديّة والماليّة أثبتت نجاعةً مذهلة. هكذا استطاعت الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة درء الآثار الكبيرة لأزمة جائحة الكوفيد 19 عبر طبع عملاتها بشكلٍ كبير، دون تغطية ودون أن تشكّل «ديونها السياديّة» خطرا كبيرا لأنّ عملاتها هى التى يقوم عليها النظام الاقتصادى العالمى المعولَم. هذا ما لا تقدر عليه الدول الأخرى، خاصّةً فى «العالم الثالث» حيث تفتقد إلى موارد رئيسيّة كالنفط وترزح تحت ثقل ديونٍ بالعملة الصعبة لتأمين وارداتها وأمنها الغذائى ونهوضها من الجائحة. وها هى الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة تموّل اليوم الحرب الأوكرانيّة بالطريقة ذاتها دون سقوفٍ أو حدود.

تمّ استخدام العقوبات الاقتصاديّة كسلاحٍ رغم رفض الأمم المتحدة لهذه الوسيلة التى لا تقلّ فتكا عن الأسلحة الحربيّة والتى ثبت أنّها لم تغيّر يوما «نظاما»، بل ثبتّت أركانه مع إفقار المواطنين. عقوبات فرضت على العراق منذ 1990، تخطّت حصيلة ضحاياها تلك للغزو، ولم تتمّ إزالتها كليّا حتّى اليوم بعد ثلاثين سنة. وعقوبات على سوريا منذ الثمانينات لتدخّلها فى لبنان، الذى جرى فى حينه بضوءٍ أخضر أمريكى. عقوبات على دول «مارقة» حيال «نظامٍ دولى» لم يعُد أصلا موجودا. وعقوبات انتقائيّة. فلا مجال حتّى للسماح بمقاطعة البضاعة التى ينتجها مستوطنو الضفّة الغربيّة فى ظلّ احتلال استيطانيّ موصوف فى القانون الدولى. وعقوبات سهلة لا تكلّف صناع قرارها، من إدارات وبرلمانات، جهدا كبيرا فى حشد الموارد كما للحرب، بل الجهد هو لـ«مجموعات الضغط» (اللوبيات) ولناشطين «مدنيين»، ومن يموّلهم، بحججٍ مختلفة.
• • •

فى النهاية، تتحوّل الدول «المارقة» المعاقَبة إلى «مارقة» أكثر، واقتصاداتها إلى اقتصادات هشّة، وتتحوّل التجارة والإنتاج إلى التهريب والممنوعات، وينفلت التعامل المالى إلى الـ«كاش» بعملات المعاقِبين ذاتهم. وعلى عكس الحرب التى تستنزف الموارد، يُمكِن لمثل هذه الآليّات أن تستمرّ إلى ما لا نهاية.

اليوم تتطوّر أنظمة «العقوبات» لتطال شركات متعدّدة الجنسيّة مركزها الصين، بحجّة أنّها تسمح للصين بالتجسّس على المواطنين... ولكن ماذا عن الأنظمة التى تنتجها الولايات المتحدة وإسرائيل... أليست هى أيضا بابا للتجسّس؟!

هذا هو وضع «اللانظام العالمى» اليوم. ربّما تستطيع دول الخليج العربى التأقلم معه، بل والتأثير فيه. لكنّ الدول الأخرى العربيّة المتوسطيّة تعانى منه، وبشدّة. الشعوب فيها تعانى من حكوماتها أو من السلطات القائمة. هذا مع العلم بأنّ الإدارة الرشيدة والديموقراطيّة لا يُمكِن فرضها من الخارج، بل عبر آليّة إحياء الدولة كمؤسسة قادرة. فهى التى يُمكِن أن تضمَن المساواة فى المواطنة والتحوّل الديموقراطى. وبالتأكيد إنّ مهمّة حكوماتها وأحزابها السياسيّة وقوى مجتمعها، مهما كانت، ليست سهلة، حتّى لو حصل تغيير جذرى. لأنّ العبث الموروث وسوء إدارة السلطات القائمة لهما وقع الكارثة على المجتمع، ولأنّ المجتمع أضحى مستقطبا فى صراعات الدول، ولأنّ التداعيات الاقتصادية والمالية «للانظام العالمى» ضخمة.

لا يُمكِن الاعتماد، حتما، على منظومة الجامعة العربيّة، التى لا تشبه اليوم الفكرة التى قامت عليها فى أربعينات القرن الماضى. كما لا يُمكِن الاعتماد على الأمم المتحدة، التى وإن كانت منبرا لطرح قضايا حقوق الإنسان كما حقوق الدول، أضحت عاجزة أكثر من الماضى مع انتشار الصراعات، وعجزها أكبر فى معالجتها. وكذلك الأمر بالنسبة لصندوق النقد والبنك الدوليين، فهما وإن تحرّرا قليلا من «إجماع واشنطن»، يبقيان مصرفين يعملان على إقراض المال. فهما لم يحذّرا من الانهيار المالى اللبنانى الكبير فى تداعياته... إلاّ بعد حدوثه، رغم أنّهما كانا يعرفان أنّه حاصل.

باختصار يستدعى «اللانظام العالمى» القائم كثيرا من الحكمة والدراية والمحبّة للأوطان والتمسّك بالحريّة.. وذلك فوق كلّ اعتبارٍ آخر.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب