من الشرفات الخلفية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 5 مايو 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

اتصلت بها، ففى هذا الشهر الكريم متسع للتوبة وإصلاح ذات البين. ذنبى أننى تأخرت شهورا فى الاتصال بها للاطمئنان وتحديث المعلومات وتطييب الخواطر. قوبل اعتذارى بما يستحق من كاتبة عرفناها سلسة الكلمات رقيقة المشاعر. مرت دقائق ليست قليلة قبل أن تعلن أن عندها ما يدفع إلى القلق. نفرت عروق يداى وزاغ بصرى. ففى هذه الشهور الفائتة سعت امرأة بعد أخرى وتعبت حتى تنفرد بى لتبلغنى أن المرض العضال أصابها. لم أنطق. توقعت أن يسبق الإبلاغ إعلان الثقة فيما عرف أو شاع من علامات الشجاعة وفى صفات القلب الجامد وفى سمعة المحب الصامد. قطعت من جانبها الصمت الطويل بضحكة وصلتنى حزينة. لم أستجب. تسارعت أنفاسى ولعلها سمِعتُها فأسرَعَت بالإعلان عن قضيتها. قالت بصوت صرخة «صديقتك التى هى أنا فقدت القدرة على الكتابة»، وراحت تبكى.
***
قضيت أنا الآخر أسبوعا لم أكتب فيه كلمة. جربت كل شىء. تناولت ما امتدت إليه يدى من منبهات. عاد الكهل كتلميذ غلبه الشك فى شهر الامتحان حتى خُيل إليه أنه نسى كل ما درس قراءة وحفظا وتلقينا. خرجت مرارا إلى الطرقات الخالية من زبائن الفيروس، أمشى وأفكر، ثم أعود إلى مكانى عند شرفتى خاوى الوفاض أتنقل بين عشرة مقاعد اشتريتها قبل حلول الفيروس لأستعين بها فى عقد لقاءات للنقاش وصنع الأفكار.. حزنت على حالى. هل هكذا تكون نهاية الكاتب. قبل أيام كان لديه ما يقول ليكتب وما يفيض عن الكتابة يوزعه مادة للحوار. اليوم لا شىء. مجرد إحساس، إحساس من جف حلقه تماما كوصف الأطباء لحال مريض الكورونا. الغريب فى الأمر أن الجفاف بدأ أعلى الرأس، ولكنه جفاف على كل حال. فعلت ما يفعل كل البشر هذه الأيام إن استعصت على فهمهم أو ذاكرتهم فكرة أو كلمة. رحت أبحث فى جوجل ربما للمرة العشرين فى أقل من يوم، أبحث بين أعراض مرض من مسته عدوى الفيروس علنى أجد ما يفيد أن الفيروس يصيب بالجفاف ليس فقط الحلق ولكن أيضا ينبوع الكلمات فى مخ الضحية. ألقيت بجوجل جانبا ولجأت إلى القناة الإخبارية الأمريكية. شاهدت أربع نشرات أخبار متتالية. كان البطل فى النشرات الأربع الرئيس دونالد ترامب. أثار فى الصدر مواجع. لم أسمع خبرا أو رأيا يرطب الجفاف الطاغى. عدت إلى ما يكتبه الآخرون فى انجلترا والهند وما يصرح به المسئولون فى المجالس الدولية والإقليمية، لم أتوقف عند فكرة براقة واحدة تشدنى لأكتب.
***
لن أفكر. لن أبحث عن موضوع أكتب فيه أو عنه. لن أسحب من كوم المقالات الأجنبية والعربية مقالا أو تحليلا. لن أقرأ. اخترت مقعدا مريحا ومددت الساقين ليرتاحا على مقعد آخر. اخترت أن أسرح فى جمال زرقة السماء وروعة ألوان الشجر والزهور. حرضنى شيطان على قطف زهرات، كل زهرة منها بلون مختلف. ندمت على ما فعلت. خفت أن يمتد إليها شره الفيروس بعد أن تخلت عن مناعتها المكتسبة من التربة والشمس وعيون تحب وأصابع تحنو. زال خوفى بعد أن تذكرت أن جوجل لم يضع الزهور والنباتات على قائمة الضحايا المحتملين لفيروس الكورونا. فيروس محير أليس كذلك؟ اختار من جسم الإنسان صدره. اختار مصدر الحنان والحب فى هذا المخلوق العظيم والجميل ليرقد فيه أسابيع أو شهورا ثم يفتك به. هأنذا أحزن من جديد.
***
على مرمى البصر، يعنى على بعد مائة متر لا أكثر، رجل يمشى فى شرفة شقته ذهابا وإيابا. لم يمل المشى فى مسافة هى بالضبط متران ونصف المتر. تعمد فيما يبدو ألا يضع فى الشرفة مقعدا يغريه بالجلوس أو يعيق خط السير. كان يمكن أن يبقى ساكنا مغمورا فى هذا الحى الناشئ لو لم يعلن الفيروس الحرب علينا جميعا فيقرر أن يدير أعماله من الشرفة. نعرف، ولا ندرك، أن للهاتف الذكى إمكانات وقدرات رهيبة ليس أقلها شأنا مكبر الصوت المغروس فيه. أجزم أننى، أو غيرى فى موقعى أو قريبا منه نعرف معلومات عن عمل هذا الرجل ما لم تعرفه زوجته، إن كان له زوجة. تابعت مفاوضاته لعقد أكثر من صفقة لشراء سلع مستوردة، صفقة منها تجاوزت أرقامها المليون. من لهجته تأكدت جنسيته، ومن لغات تفاوض بها تأكدت كثافة علاقات الشركة الخارجية، ومن تباين الأوامر الصادرة تأكدت ضخامة العمالة فى شركته، ومن تفاصيل صغيرة تأكدت مكانته فى سوق السياسة والوسطاء والعمولات.
فى شرفة أخرى مقعدان تشغلهما فى الصباح الباكر سيدتان أعتقد أنهما تجاوزتا الثمانين. عجزت عن تفسير ما يهمسان به فى هاتفيهما. تصورت أنهما بحكم ما يصيب حاسة السمع لدى الكبار فإن الصوت الصادر عنهما سيكون عاليا بعض الشىء. مضت الأسابيع والسيدتان فى شرفتيهما يتكلمان بصوت خفيض وفى هاتفيهما بالهمس. تمنيت لو تحليا بصوت جارنا رجل الأعمال فاستمعنا إلى ما يمكن أن تروياه من حكايات عن ماض كان غنيا. هذا الماضى لا يزال هكذا غنيا وعميقا وخصبا لمن يعرف كيف يغوص فى ذكريات الناس وخصوصياتهم. ثروة فى هذه الشرفة لم أستفد من وجودها.. حتى الآن.
***
فى شرفة ثالثة وفى ليلة باردة امرأة ورجل. دارت بينهما مناقشة بدت من على البعد حارة. تدهورت لغة النقاش وارتفع الصوت حتى وصل ناحيتى. رأيت المرأة تنهض فى انفعال وفى يدها هاتفه المحمول وما هى إلا لحظة وكان الهاتف يطير فى اتجاه الحديقة التى تفصل بين شرفتينا. اختفى الرجل من أمام ناظرى للحظات عاد بعدها ليظهر فى الحديقة يبحث عن هاتفه حتى وجده. «صرخ صرخة مدوية» انحنى فى إثرها يلملم قطع الهاتف وبما جمع انطلق عائدا نحو مدخل بنايته. سمعته يهدد ويتوعد. دخل واختفى. لم أره فى الشرفة مرة أخرى ولا رأيت المرأة. نوافذ الشقة مغلقة معظم الوقت وستائرها مسدلة والظلام من ورائها بالليل دامس. لا حس ولا خبر. صبرت يومين وفى اليوم الثالث سألت الحارس. قال «أرى الرجل كعادته يخرج ويعود بانتظام. أما المرأة فغريب سؤالك يا سيدى. أرجو أن تثق يا سيدى فى صدق شهادتى ثقة تامة.. هذه الشقة لم تدخلها أو تخرج منها امرأة منذ توفيت المرحومة، أى منذ عامين».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved