الزمان والمكان

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 5 يونيو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أواجه مشكلة واجهها أصدقاء كثيرون. تغلب عليها بعضهم بجرأة وحسم، وراوغ أكثرهم فتعقدت. المشكلة هى التخلص من عدد هائل من الكتب والدوريات والمقالات والوثائق تراكم عبر السنين. بدأ كما يبدأ أى شىء صغيرا وما أن شب عن الطوق حتى انطلق يزحف من مساحته المقررة له سلفا نحو مساحات ليست من حقه وبعضها لا يليق به. خرجت الكتب تسد ردهة بعد أخرى وتسللت إلى غرف كان محظورا الدخول فيها وصعدت فوق خزائن ودخلت فى أدراج وتسربت تحت مقعد أو آخر. بدأت حياتها معنا عبر علاقة هادئة، وإلى حد ما أنيقة، وانتهت بصداقة متوترة وأحيانا مؤذية.. جسديا وعصبيا.

 

●●●

 

 سألت واستشرت. حذرنى أكثر من صديق من أن «الحل النهائى» لمشكلة المكتبة يوم يتقرر سوف يكون مؤلما، وستسقط فيه ضحايا. جاءت إجابات واستشارات أخرى أقل سلبية. أحد الزملاء وصف لحظة الفراق بأنها ستكون مثل لحظة توديع زائر هبط عليك ذات يوم ولم تمض أيام على استضافته إلا وكان قد استدعى أقرانا وأقارب ثم حلا لكل قرين وقريب أن يأتى بقرين وقريب. عاشوا معا متكاثرين سنوات طويلة وكلهم على أتم الثقة والاطمئنان إلى انك لن تجد الشجاعة الكافية لتطلب منهم الرحيل. قد تفكر أن ترحل أنت إلى مكان آخر. أعدك يا صديقى انك ستشعر ساعة الرحيل انك كمن يغادر فندقا أقام فيه لبعض الوقت.. لا أكثر. لن تذرف دمعة ولن تحن. انتهت نصيحة الزميل.

 

●●●

 

 قبل اتخاذ قرار الترحيل أو الرحيل، قررت أن أخفف تبعات الفراق بأن أعيد تنظيم المكتبة لأتركها لمن يتولاها برعاية راقية ولطيفة وطيعة كما كانت فى عهود علاقتنا المبكرة. احترت فى اختيار نظام ترتيب الكتب علما بأننى لست غريبا عن ترتيب الكتب منذ أن تلقيت وأنا طالب بالجامعة عرضا من احدى أهم المكتبات العامة فى القاهرة العمل بها لنصف الوقت. لم أتردد فى قبول العرض. ولم أندم يوما على السنوات التى عملت فيها «صبى مكتبة». تعلمت كيف أفهرس الكتب حسب نظام علمى متعارف عليه عالميا، وبالتالى كيف أرتب الكتب على رفوف المكتبة. وبعد فترة التدريب الأولى تعلمت كيف اختار الكتب من الناشرين وأخيرا كيف أرشد زوار المكتبة من الباحثين والطلاب إلى مواقع المعلومات فى كتب المراجع ووثائق المكتبة. كانت فرصة ثمينة للتعرف على عدد كبير من أساتذة الجامعات وطلابها. كانوا فى ذلك الزمن يقرأون.

 

●●●

 

فكرت أن أسلك مسلكا جديدا فى ترتيب المكتبة التى نويت أن تتركنى أو أتركها. فكرت فى ترتيبها زمنيا، أى حسب تاريخ نشر الكتاب أو حسب الزمن الذى يناقشه الكتاب. لم اعرف أننى بذلك أفتح بابا تهب منه ريح عاتية. تعيد طرح سؤال كثيرا ما حيرنى وعذبنى كما حير، وربما عذب، عشرات بل مئات غيرى، سؤال العلاقة بين الزمن والمكان.

 

 تذكرت فيلسوفا قال إن لا خيار لنا فى الزمن. نحن كائنات اللحظة وسنبقى دائما كائنات اللحظة. العالم بالنسبة لنا لحظات لا نختارها على عكس المكان الذى غالبا ما يخضع لاختياراتنا. عدت أفكر، لماذا أختار الوقت أداة لترتيب كتبى؟. من أدرانى أن قيمة الوقت لم تتغير منذ تاريخ نشر أقدم كتاب موجود عندى؟. ألم يتغير معنى الزمن مع كل المعانى التى تغيرت خلال العقود الماضية؟. هناك من يذكرنا كل يوم بـأن الانترنت «افترس» المسافات ولم يترك مكانا فى مكانه، وهناك ما يذكرنا بأنه «افترس» خصوصياتنا ولم يترك سرا فى صدر صاحبه أو صاحبته. ومع ذلك لا أحد أبلغنا أن هذا الانترنت «افترس» مراحل الزمن. يستحيل على الانترنت أن يفعل بالزمن ما فعله بالمكان. أم أنه لا يعرف المستحيل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved