اكتب وصيتك وارحل

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 7 يونيو 2016 - 1:19 م بتوقيت القاهرة

وقف العربى هناك عند حافة الحياة أو هكذا خيل له، هو تآلف مع الموت المزمن كالمرض المزمن فكل أخباره القادمة من عواصم العرب لا تحمل سوى التوابيت على أحجامها المختلفة.. لا تقف مطولا عند التفاصيل من يقتل من ؟؟ ومن أعتدى أولا؟ وكم طفلا بقى يجول دول شمال المتوسط بحثا عن حضن دافئ، فيما تحولت الأوطان إلى مقابر للأمهات والآباء والأجداد وكثيرا من الأحفاد الصغار.. وجوه ببراءة الملائكة بقيت عارية حتى جاء الكفن ليستر عورتها.


***


قال ذاك العربى الواقف هنا والمتوجس من القادم بعد خطوة وليس بعد أميال.. يفكر فى كتابة وصيته بعد أن قرر ألا يستمع للكثيرين الذين قالوا له إن كتابة الوصية حرام فقد شرَّع الدين لكل أمر.. عندما كرروا كلمة حرام راح هو يتحدث مع نفسه من إعطائهم صلاحية احتكار الدين حصريا ؟؟ وكيف أن الرب والإله والخالق هو يحمل أسماء مثل الرحيم واللطيف والرءوف والغفار والحليم والعليم، فهو يعلم ما يسكن فى القلوب وما يوجعها أيضا..


أعاد التفكير فى كتابة وصية لا تحمل رائحة أوراق النقد على اختلافها.. سيكتب وصية لا تحمل رائحة الدولار ولا الدينار ولا العقار ولا الإرث المادى الحصرى فقط.. قال سأكتب وصية لأبنائى وأحفادى وأبناء هذا الوطن الممتد بين تفاصيل الحدود وتقاسيم الأراضى.. لن أُقسِّم الأرض بينهم ولا المنزل ولا تلك الدكانة عند ناصية الحى ولا حتى مزرعتى التى ورثتها من جدى فى ضيعتنا البعيدة ولا شجرة النارنج والزيتون المتلاصقتين ولا حتى الياسمينة فى حوش بيتى التى ورثتها عن أمى عندما كانت تتلاحم معها فى كل صباح مع فنجان قهوتها الدافئ..


راح يحدث نفسه مرة أخرى، وهى أصبحت عادة عربية شديدة الانتشار، كيف أورِّث لهم الدفء ورائحة المنزل الخاصة وغرفتى التى كنت أجلس فيها لساعات طويلة، والتى تنوعت على حساب تلاوين سنوات عمرى من إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعى والعقاد وطه حسين إلى بابلو نيرودا وتولستوى وبينهم دوما لا مجال إلا أن تبقى دواوين محمود درويش تسكن حافة سريرى وأطراف مكتبى كلما اتعبتنى الحياة عدت له ليسقينى الأمل قطرة قطرة.. أليس هو من كرر «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».. يا ترى لو بقى قلبه معه لبضع سنين وعاصر هذا الزمن العربى الصعب إن لم نقل السيئ، يا ترى هل كان سيقول إن عليها ما يستحق الحياة أيضا!


من أين يكتب وصيته ليته كان يكتبها حول إرث البيت والأرض والمصنع لكانت أسهل حتما من أن يقول لهم لكل الذين سيرثونه ليس من أسرته فقط بل كلهم الذين كان يتصور يوما أن له فيهم ومنهم حصة، ليته يستطيع أن يصف لهم بعض دروس حياته تلك التى تعلمها بكثير من العرق وانكسارات النفس وأخرى التى تعلمها من كتب التاريخ المتنوعة.. من تجارب البشر فى كل مكان عند أطراف المحيط أو على حافة الخليج..


ماذا يكتب فى وصيته كثير من الحب الذى كان وقد رحل، وبعض من الحكمة التى كان يقال إن أهله يتحلون بها والتى اختفت من قواميس لغات اليوم.. أو عن الزمن الذى كان فيه للجار والصديق كثير من الحق عليه كما لأهله وعائلته حق أيضا.. أو إن كانت هناك أمثلة يحق لها بحق أن تخلق النموذج القدوه حتى ولو جاءت من بلد بعيد جدا حيث اللغة مختلفة والعادات والتقاليد. إلا أن الحق والحرية والحياة والعدالة تتساوى فيها الشعوب على اختلافها فلا لون لها ولا دين أو طائفة!


***


ابتسم بحزن وراح يكرر ماذا أكتب فى الوصية حول شخصية هى قد تشكل القدوة للجيل القادم الذى أصبح كمن يقف بين مرحلتين لا يعرف من الماضى سوى بعض ما كتب ولا يعرف من الحاضر إلا ما يأتى من البعيد، أما المستقبل فهذا جيل اليوم أو جيل اللحظة يغتنصها كما الفريسة ولا يهم ما يأتى بعدها..
أطال التفكير وراح يجوب الغرفة وأنحاء بيته وكلما وقع نظره على قطعة منه حجر كان أو بعض ذكريات ورائحة صار يقول كيف أكتب وأصف هذا لهم لأحفادى القادمين على ملاحم الموت؟؟ كيف يعرفون أن هناك من ضحى كثيرا من أجلهم حتى قبل أن يعرفهم ؟؟ كيف وماذا يكتب؟؟


وقف العربى وقرر لا وصية له ليكتبها وهو لا يعرف إن كان سيبقى هناك بعض وطن أو لا وطن ؟؟ بعض حجر أو رائحة ؟؟ بعض دفء بدأ يتسرب مع سقوط القذائف على تنوعاتها ؟؟


راح يردد لا وصية للعربى.. لا وصية له ليس لأنها حرام ولكن لأن الطائرة الحربية والدبابة والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة قد تقذف بها بعيدا كما فعلت مع بقايا صوره !!!

كاتبة بحرينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved