عن التاريخ الذى يُكتب بالدم.. غزة - فلسطين: عنوان المستقبل العربى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 5 يونيو 2018 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

تغمر الدماء وجه غزة التى ما أن تفرغ من تشييع ثلة من شهدائها حتى يعود فتيتها إلى مواقعهم عند الحد الذى يفصلهم بالحديد والنار عن سائر أهلهم فى وطنهم فلسطين.
يوما بعد يوم يتناقص أعداد «الإخوة العرب» ممن يتابعون أخبار فلسطين عموما وغزة خصوصا.. منهم يدارون عجزهم بالامتناع عن سماع نشرات الأخبار فإن هم سمعوها هزوا رؤوسهم بوجع، وبسملوا وحوقلوا وأحالوا الأمر إلى الله عز وجل..
الجزيرة العربية بعيدة جدا، ودولها مشغولة بما هو أهم من غزة وفلسطين، فهى تمر بمرحلة دقيقة: تسلَّم وتسليم فى دولة العرش الكبرى، تمهيدا للمواجهة العظمى مع بلاد فارس بقيادة «الملالى» التى تعيث فى الأرض فسادا، بعنوان اليمن، وتمد أذرعتها عبر العراق إلى سوريا التى باتت أشبه بقاعدة لها، ومنها إلى لبنان و«التحرش» بإسرائيل وترفع شعارات فلسطين لإيهام العرب والمسلمين بأنها الأحرص والأولى بتحرير القدس.
أما العراق المثخن بجراحه ففى حاجة إلى من ينجده وينقذه من الفتنة التى يكافح العراقيون لوأدها فتجد من ينفخ فى جمرها المتبقى من عهد صدام والذى تراكم خلال تجارب بل مغامرات السياسيين العائدين من المنافى ممتلئين بالأحقاد والرغبة فى الانتقام التى تتفاقم متخذة سياقا مذهبيا ينذر بالتفجر وتدمير ما تبقى من دولة العراق وشعبها.
فأما سوريا فالحرب فيها وعليها مستمرة، وإن كانت المساحة التى تحتلها العصابات المسلحة تتناقص، فتستعيد دمشق ضواحيها التى كان المسلحون فيها يهددون أمن الناس فيها، ثم اضطروا إلى الخروج منها باتجاه إدلب فى الشمال، أو باتجاه دير الزور حيث قرر الأمريكيون أن ينشئوا فيها قاعدة عسكرية بذريعة مطاردة «داعش».. وهكذا اتصلوا بالأتراك فى الشمال، إدلب وجوارها، وتوافقوا على تقاسم الشرق حتى تصادموا مع النظام والروس من خلفه..
وفى حين أخطرت دمشق مواطنيها الغائبين بأن يثبتوا حضورهم لتأكيد حقوقهم فى أملاكهم، خلال مهلة قصيرة، فإن أصواتا عالية ارتفعت فى لبنان متخوفة من أن يدفع هذا الإخطار الكثير من السوريين إلى اختيار البقاء حيث هم، فى لبنان، لتعذر تلبية شروطه خلال المهلة المحدودة المعطاة لهم، مما يزيد فى تعقيد موضوع وجود النازحين السوريين فى لبنان، والذين تتراوح أعدادهم بين مليون ونصف ومليونى نسمة.. علما أنه كان يوجد فى لبنان حتى فى أيام السلم فى سوريا، أكثر من مليون سورى يعملون أساسا فى الزراعة (التى نسيها اللبنانيون) أو فى إعمال البناء كما فى الفنادق والمقاهى والمطاعم... وهم قد تقدموا فتملكوا أو استأجروا بعضها.
***
فأما فلسطين فسلطتها فى رام الله فى حالة صحية صعبة، وغزة تتصرف وكأنها متروكة لمصيرها فى مواجهة الوحش الإسرائيلى الذى فتك جنوده خلال الأيام القليلة الماضية بأكثر من مائتين وخمسين شابا، وأسقطوا أكثر من ألفى جريح ستترك الإصابات فى أجسادهم تشوهات دائمة، خصوصا وأن الرصاص المستخدم به كمية من السموم تجعل الشفاء مستحيلا.
ولقد أكدت الولايات المتحدة الأمريكية موقفها العدائى من هذه القضية المقدسة بوقوفها فى مجلس الأمن، مستقوية بحق الفيتو ضد قرار قدمته الكويت لإدانة العدوان.. وهو موقف يأتى فى أعقاب قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة..
وحسنا فعلت الحكومة المصرية بفتح المعابر بين غزة ومصر طيلة شهر رمضان المبارك، ما قد يخفف، ولو قليلا، من أعباء معالجة المصابين، ثم قد يسمح بكسر الحصار الإسرائيلى المفروض على غزة، وإدخال الأدوية وبعض المؤن إلى أهلها التى عزت نجدتهم على إخوانهم العرب البالغة أعدادهم أكثر من أربعمائة مليون مواطن.
لا داعى للتذكير بأن ليبيا أرض مشاع، لا دولة فيها ولا احتمال قريبا بعودة دولتها إليها، وإن كان البعض يعقد شيئا من الأمل على التحرك الفرنسى الذى نجح فى جمع أشتات المعارضة، فى محاولة للتفاهم على صيغة لاستعادة مشروع دولة ستحتاج جهودا خارقة لإعادتها إلى الوجود ومن ثم إلى رعاية شعبها الموزع الآن بين دويلات شتى.
تونس تعيش فترة قلقة بعد اضطراب العلاقة بين القوى السياسية الأساسية، لا هى تريد الرجوع إلى الماضى، ولا تقدر عليه، كما أنها تعجز عن حسم وضع الحكم فيها بما يمكنه من التقدم لصنع المستقبل فى ظل مناخ من الوفاق الوطنى.
فى هذا الوقت تستفيد فرنسا من حالة الاضطراب السائدة لإنعاش نفوذها فى هذه الدولة التى انتبه شعبها إلى أن ماضيه السياسى كان أكثر أمانا من حاضره، وربما من مستقبله.
تبقى الجزائر والمغرب والمناخ ينذر بتجدد الاشتباك حول الصحراء الغربية، وفى أى حال فإن نجدة فلسطين فيهما تنحصر فى التظاهر تأييدا لشعبها، ثم فى إرسال بعض المساعدات الطبية والأدوية للجرحى..
*****
من قبل وعلى امتداد نصف قرن أو يزيد، كانت فلسطين هى المشعل وهى المقصد وهى حداء الثورة التى سرعان ما تفجرت فى سوريا ثم فى مصر وبعدها العراق ولبنان وصولا إلى اليمن..
اليوم تبدو فلسطين يتيمة على المستوى الشعبى، لا أهل لها ولا نصير، اللهم فى بعض دول الغرب..
أما على المستوى الرسمى فمعظم الدول العربية، لا سيما فى الجزيرة والخليج، تمهد للاعتراف بالكيان الإسرائيلى، رسميا أو عمليا، سواء تحت الضغط الأمريكى وإما ممالأة لإدارة ترامب والسبق إلى إرضائها من قبل أن تطلب.
لقد صارت إسرائيل هى الولايات المتحدة الأمريكية، أو هكذا يريد الرئيس الأمريكى ترامب من العرب أن يفهموا: فهو من اتخذ القرار بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى تلة تشرف على كامل القدس المحتلة.. ثم إنه من اعتذر فى آخر لحظة عن المجيء إلى إسرائيل للمشاركة فى احتفالها بإقامته على أرض شعب فلسطين بالقوة القاهرة (والغفلة العربية) قبل سبعين عاما.. قبل أن يوفد ابنته وصهره ليشهدا «الاحتفال التاريخى».
وها هو شعب فلسطين لا يجد اليوم معينا ونصيرا فى مواجهة تهويد بلاده بالمستوطنات المسلحة، ولا من يرد عنه العدوان الإسرائيلى المفتوح أو يعينه على مواجهته.. خصوصا وأنه لا يملك من السلاح إلا دمه.
إن غزة المحاصرة لا تجد من ينجدها.. وعندما حاول أهلها الخروج بتظاهرة بحرية عبر بعض السفن الصغيرة، تصدى لها جيش الاحتلال بالقصف واعتقال المتظاهرين وسفنهم، بل مراكبهم غير المسلحة.
***
لا يمكن التسليم بهذا الأمر الواقع وكأنه نهاية المطاف، والتسليم بأن فلسطين قد سقطت نهائيا فى أيدى الوحش الاسرائيلى، وليس على العرب إلا الرضوخ للأمر الواقع، ونسيان خريطة أوطانهم ودماء شهدائهم وأرامل من قضوا فى الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. إن مسح فلسطين عن الخريطة العربية يعنى تغيير التاريخ والجغرافيا والمصير للأمة العربية جمعاء.
والدفاع عن فلسطين، والتمسك بها كقضية مقدسة، هو تمسك بالهوية ومستقبل السيادة والاستقلال والكرامة.
إن الأرض هى الشرف، وهى موضع العزة، وهى مصدر الحرية.
ولقد دفعت الأمة العربية، بأقطارها المختلفة، ملايين الشهداء من أجل استعادة قرارها وحقها فى أن تقرر مستقبلها بإرادتها.
هى لن تتخلى، بأجيالها الجديدة، عن هذا الحق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved