سقوط «الدولة» العربية.. وإسرائيل الدولة الوحيدة فى المنطقة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 5 يوليه 2016 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

سقطت «الدولة» فى الوطن العربى، مشرقا ومغربا.. أو تكاد، لا فرق بين الجمهوريات والملكيات والإمارات.

سقط «الاستقلال» و«القرار الوطنى المستقل» منذ زمن بعيد، والأعذار جاهزة: تصاغر العالم فصار قرية كبيرة، السلطة فيها للأقوى الذى يكون، فى العادة، الأغنى.. حتى أوروبا، بدولها التى كانت إمبراطوريات، أدركت أو أنها تجرعت الحقيقة المرة، فاندفعت إلى «الاتحاد» لعلها تحاول استنقاذ بعض حقها فى المشاركة فى القرارات، أقله التى تعنيها.. وها هى بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبى فتهز أركانه، وسط تشجيع أمريكى معلن..

ما بالك إذن، بأحوال العرب الذين تخلوا عن أحلام الوحدة أو الاتحاد منذ زمن بعيد، وها هى دولهم الضعيفة أصلا، تقتتل فيما بينها فاتحة الباب للتدخل الأجنبى أو مستنجدة به ضد بعضها البعض... بل إن العمل جارٍ لإسقاط «العروبة» وحذفها كهوية جامعة لشعوب هذه «الأمة» بدولها المختلفة التى يثبت، يوما بعد الآخر، أنها لم تكن دولا مكتملة النمو وجديرة بالحياة.

لعلها، بمعظمها، كانت أنصاف دول، أو ربما أرباع دول، كيانها السياسى طارئ أو مستحدث (الأردن مثلا، والذى كان المشروع الإسرائيلى السبب المباشر فى استيلاده ككيان لم يكن له وجود فى سابق الأيام..)

فى جهات أخرى كان النفط أو الغاز هو السبب فى تحويل المشيخات التى لم تعرف الدولة فى تاريخها، إلى «دول» غنية، وبالتالى مؤثرة، وهى كانت بعض الأراضى الرملية الجرداء على ساحل الخليج الذى كان معظمه تابعا لسلطنة عمان التى شهدت أيام عز فى ماضيها (الإمبراطورى) باعتبارها تمسك بمفاتيح الخليج العربى وبحر العرب ويمتد نفوذها إلى الساحل الأفريقى (تنزانيا) فى حين تهيمن على بعض سواحل المحيط الهادى حتى إندونيسيا.

فجأة، ومن دون سابق إنذار، ولأسباب تتصل باستراتيجيات الدول العظمى، بريطانيا أساسا ومن ثم الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دون أية علاقة بإرادة أهلها (وكانوا بضع عشرات من الآلاف فى كل إمارة أو مشيخة لكل منها أسرة حاكمة بشيخ يؤهله نسبه أو وجاهته القبلية لأن يكون صاحب الكلمة الفصل).. صارت هذه المشيخات دولا بنفطها أو بغازها الذى كان احتمالا فجعله الأجنبى مصدرا لثروة هائلة تعطى نوعا من الشرعية «لاستقلالها» تحت حماية من يستثمر ثرواتها المخبوءة فى قلب الرمل أو فى عمق الخليج العربى (النفط فى الكويت والإمارات، والغاز فى قطر، أما البحرين فكانت قاعدة عسكرية بريطانية لحماية «طريق الهند»، ثم جاء الأمريكيون فابتنوا فيها قاعدة ثانية.. مع الاستناد إلى ظهير كبير يتمثل فى السعودية التى لا يفصلها عنها إلا بضع مئات من الأمتار المقيم فوقها جسر، يربط مصيرها، إلى حد كبير، بها..).

هكذا وخلال نصف قرن قامت على شاطئ الخليج العربى أو فيه (البحرين) أربع دول تشترك بحدودها مع السعودية، الدولة العظمى (قياسا إلى أحجام جاراتها المستولدة لأسباب معروفة)، فى حين تحميها مصالح الدول الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية بعد بريطانيا التى ارتضت الموقع الثانى).

ثم كان أن صار لهذه الدول عروش بطقوس ملكية، وجيوش تم جلب عسكرها وتحديدا نواة جيشها (من المملكة الأردنية، صاحبة الخبرة الطويلة والذى قام عرشها على البدو أساسا، ثم من دول إسلامية كثيفة السكان وفقيرة (باكستان، مثلا، وبنجلاديش) إضافة إلى تجنيس مجاميع من البدو الذين لم تعطهم بلاد إقامتهم جنسيتها، أو تم«شراؤهم» من بدو دول عربية أخرى مثل سوريا، والأردن، ثم السودان... وربما بعض البدو ممن لم تمنحهم الكويت جنسيتها والذين يعرفون بـ«البدون».

***

حلت «الدولة» إذن، محل «الهوية»: دولة الكويت، دولة قطر، دولة البحرين، دولة الإمارات العربية المتحدة..

بالمقابل أسقطت«الهوية» عن اسم الجمهورية العربية اليمنية، كما أسقطت عن الاسم الرسمى لجماهيرية العقيد معمر القذافى.

بالمقابل احتلت الهوية العربية مكانها فى اسم «جمهورية مصر العربية» حتى بعد سقوط أول تجربة وحدوية فى التاريخ العربى الحديث بين دولتين حملت اسم «الجمهورية العربية المتحدة«، لم تعمر أكثر من سنتين ونصف السنة، فى حين أضيفت كلمة «العربية» إلى الجمهورية السورية فصارت «الجمهورية العربية السورية». أما المملكة السعودية فقد أضيفت الهوية العربية إلى اسمها للتخفيف من نسبة المملكة إلى أسرة واحدة بالذات، ربما اقتداء بالمملكة العلوية المغربية.

لكن التسمية غالبا ما كانت «رمزية» وليس لها تجسيدها فى الهوية السياسية بدلالاتها الوحدوية، أى توكيد الهوية الجامعة لهذه الشعوب ومن ثم دولها.

اليوم تضيق القوى الحاكمة فى بعض الدول بهذه الهوية.. وهى فى أى حال تتجاهلها ــ بمقتضياتها ــ وهى تسعى إلى تحقيق مصالحها بمعزل عن الهوية الجامعة، بل وعلى حسابها فى الغالب الأعم، يستوى فى ذلك التملص من «الرابط القومى» بين هذه الشعوب فى «دولها» المحتربة أحيانا، المتخاصمة فى أحيان أخرى، والمتملصة مما يترتب على الإقرار بها من موجبات وتحت عنوان المصالح المشتركة...

هكذا تلاقت دول النفط فى شبه الجزيرة العربية (السعودية، الكويت، الإمارات، قطر والبحرين، مضافا إليها عمان بقوة الجغرافيا) ومستبعدة منها جمهورية اليمن ليس لاختلاف النظام فحسب بل نتيجة عديد شعبها الذى يصعب تطويعه وإلحاقه بنظام الإخوة الأغنياء.

ولأنه يستحيل إنكار الهوية العربية فى أقطار النفط والغاز، بسبب الأصول القبلية الجامعة، والتى جعلها النفط امتيازا، فقد ارتضتها المملكة السعودية ودولة الإمارات هوية، بينما أبقتها الكويت وقطر والبحرين مضمرة وإن عبرت عنها القيافة والعادات (العباءة والكوفية والعقل والبن كشراب ضيافة..)

على أن التسميات وحدها لا تقرر الهوية... فالمصالح أقوى بما لا يقاس.

وهكذا خرج «العرب» من هويتهم الجامعة عمليا، وآخر دليل حسى على هذا الخروج تهالك جامعة الدول العربية التى عطلها الانقسام والتبرؤ من كل ما يجمع العرب بداية، وأساسا من قضية فلسطين وواجب تحريرها وحمايتها من عملية المحو المنهجى لهويتها (العربية) كنتيجة عملية ومنطقية للتسليم بالكيان الإسرائيلى وبتفوقه الكاسح على الدول العربية مجتمعة، قبل الحديث عن الدعم الأمريكى، بل الكونى، لهذا الكيان الذى يتبدى الآن وكأنه «الدولة»: الوحيدة فى هذه المنطقة.

***

لقد تهاوت أحلام العرب بدولة جامعة، أو حتى بدول تجمعها الهوية الواحدة والمصالح المشتركة والمصير المشترك، وبات أقصى طموح «المواطن العربى» ألا يحترب أهله فيتآمر بعضهم على البعض الآخر بذريعة اختصام الأنظمة فى ما بينها.. بل واستعداء بعضها «الدول» ضد البعض الآخر. بل لقد تجاوز الأمر اختلاف السياسات وتعظيم ذريعة التناقض فى المصالح، إلى مشاركة بعض الأنظمة فى قتال البعض الآخر، ولو بالواسطة كما جرى مع امتناع هذا النظام أو ذاك عن مواجهة «داعش» و«النصرة» و«القاعدة» (أو التورط فى مساعدتها، ولو بالواسطة) ضد أنظمة أخرى (سوريا أساسا والعراق) أو التخلى عن الحد الأدنى من موجبات الجيرة والمصالح المشتركة، والذى يكاد يوازى المشاركة فى الحرب عليها.

إن بعض الدول العربية تقاتل بالسلاح دولا عربية أخرى، فترعى منظمات معارضة وتزودها بالسلاح، غير عابئة بمصير هذه الدولة أو تلك (سوريا أساسا، والعراق بعدها) فضلا عن لبنان الذى تعرض لمجموعة من العمليات الإرهابية، كانت آخرها العملية الانتحارية فى بلدة القاع على الحدود اللبنانية ــ السورية (وأهلها للمناسبة من المسيحيين الكاثوليك، وليس لهم أية علاقة ب«حزب الله» أو بالنظام السورى... وهم بأكثريتهم من المزارعين ونسبة ملحوظة من أبنائهم جنود فى الجيش اللبنانى).

ولو أنفقت الأموال التى تبذلها الدول العربية الغنية فى قتال بعض الدول العربية الفقيرة (وبدافع المصلحة وليس الأخوة، وكاستثمارات مجزية فى سوق مشتركة كما تفعل فى دول أجنبية) لتبدلت الأحوال جذريا، اقتصاديا، وبالتالى سياسيا.

هذه على الأرجح تخاريف صائم مع نهاية رمضان.. ومثلها الرهان على أن تتبدل أحوال هذه الأمة، فى ظل سياسات لدول تهرب من قتال عدوها الواحد إسرائيل، الذى يهددها فى حاضرها ومستقبلها، إلى خصام دموى مع «أشقائها» الفقراء بذرائع شتى من خارج منطق المصالح المشتركة بل المصير الواحد.

وهكذا تتبدى إسرائيل وكأنها الدولة الوحيدة فى أرض العرب...أقله حتى إشعار آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved