من ثقافة تبرير الفساد إلى التربية على ثقافة المساءلة والمحاسبة

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأحد 5 يوليه 2020 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى.. نعرض منه ما يلى.

أطاح الفساد بأنظمة استبداديّة كثيرة: إيران وأوغندا 1979، الأرجنتين 1982، الفلبين والبرازيل 1986 وإندونيسيا 1998وغيرها. وكان من المتوقّع مع تجارب الانتقال الديمقراطى أن يتحوّل ملفّ «الفساد» إلى أولويّة تأتى على رأس كلّ المشاريع والتصوّرات ليتولّى الفاعلون الجدد من خلالها، تأسيس مسار إصلاحى جذريّ يتجاور فيه بناء الديمقراطية مع مكافحة الفساد. ولكن أثبتت هذه التجارب السياسية على اختلافها، أنّ «اللعبة السياسية» ورهانات السلطة والرغبة فى ممارسة الحكم تأتى على حساب وضع آليات دقيقة لمراقبة الأنشطة المؤدية إلى الفساد، والعمل على الحدّ من هذه الظاهرة. وانطلاقا من هذه الخيارات: الواعية أو غير الواعية مثّل الفساد تحدّيا كبيرا ونقطة سوداء فى تجربة الانتقال الديمقراطى.
ونقدّر أنّ ظاهرة الفساد قد مرّت فى تونس بموجات عديدة تزامنت كلّ موجة مع تجربة مخصوصة فى الحكم اقترنت فى حالات، بغياب التصوّرات وقلّة الخبرة، وضعف مؤسسات الدولة، واتصلت فى حالات أخرى، ببعض العوامل كتأزّم الوضع الاقتصاديّ وانتشار الإرهاب واتّساع مجال أنشطة التهريب وغيرها دون أن نتغافل عن هويّة الفاعلين فى الحكومة. فأغلب الّذين «هندسوا» مرحلة الانتقال الديمقراطى لم يبدوا أيّة إرادة حقيقية فى التصدّى لأخطبوط الفساد بل وجدنا من بين هؤلاء من استغلّ هذا الملفّ لصالحه فوظّفه وتلاعب به واستعمله لكسب تموقع سياسيّ أو لتهديد خصومه وعثرنا على من تدرّب على ضروب من الفساد المقنّع ومن اكتسب مهارات وطوّر خطاب التبرير والاستدلال..
ويسمح لنا هذا التشخيص السريع بالإقرار أولا: بمحدودية دور مؤسسات الدولة فى التصدّى لظاهرة الفساد وقدرتها على رسم السياسات الناجعة، وثانيا: بأهميّة السياق الاجتماعيّ الذى أثّر فى مسار نموّ ظاهرة الفساد فجعله يحظى بمقبولية اجتماعية. فالمتأمّل فى ردود فعل التونسيين تجاه قضايا الفساد ينتبه إلى أنّها لا تتجاوز الانتقادات اللاذعة والاستنكار والتعجبّ فهى مجرد ‹حالة نفسية› تنتاب البعض ولا تشكّل لديهم هاجسا يدعو إلى التفكّر والتدبّر فى وسائل العلاج. ولذلك سرعان ما يطوى ملف «الفضيحة» ويفقد الحدث أهميته ويتناسى القوم التفاصيل، وهو أمر مفهوم إذ الكلّ مورّط فى سلوك ينمّ عن دخلنة الفساد بشكل أو بآخر، والكلّ يبرّر بأنّ بعض المسالك ‹مقبولة› لقضاء المصلحة الذاتية وضررها قليل بل لا وجه للمقارنة بين فساد الحيتان، والأسود و«تحيّل» المستضعفين من أجل قوت اليوم فهى «ضمار» و«تدبير راس» و«فهلوة».

وبالرغم من استماتة عدد من الناشطين الحقوقيين فى فضح شبكات الفساد ونضالهم من أجل إسقاط ‹نظام بن عليّ الفاسد› فإنّ هذه الأصوات خفتت فى مرحلة الانتقال الديمقراطى ولم تعمل على تكوين حركة مقاومة قوية تهدف إلى التصدّى لظاهرة الفساد مع أنّ استعادة المجتمع المدنيّ لدوره الفعّال لها ما يبرّرها فى هذا الفضاء السياسى الجديد. فمتى قصرت الدولة فى رسم سياسات ناجعة للحدّ من الفساد وغابت الإرادة السياسية تعيّن على المجتمع المدنيّ أن ينهض بدوره. ونذهب إلى أنّ مساحات تدخّل المجتمع المدنيّ لا تتوقّف عند برامج التوعية بالمفاهيم والمصطلحات (الفساد، المساءلة الأفقية والعمودية، الداخلية، الخارجية، المحاسبة، الحوكمة...) والتفاعل مع بعض المبادرات التشريعية التى تهدف إلى تسهيل بعض العمليات.. بل نحن فى أمسّ الحاجة إلى رصد أوجه الفساد فى المؤسسات التربوية والتعليمية والطبية والثقافية والإعلامية والأمنية والاقتصادية وغيرها لتحليلها وشرح دواعى تورّط الناس فى هذا السلوك وضبط درجات الفساد.
إنّ الجميع معنيّ بتغيير البوصلة: الانتقال من وضع المشاهدة والفرجة والولولة إلى الفعل فى الواقع من خلال الانخراط فى العمل الجمعياتى، والتحوّل من قراءة مؤشر ارتفاع حالات الفساد إلى إنتاج بحوث متخصصة فى مجالات لها صلة بالفساد تتجاوز العلوم السياسية والقانونية إلى البحوث الاجتماعية، والنفسية والأنتبولوجية والجندرية وغيرها علّنا بذلك نتمكنّ من وضع خطّة وطنية شمولية لمكافحة وباء الفساد.
إنّنا بحاجة إلى عقد اجتماعيّ جديد يضع ملفّ الفساد فى الصدارة.. إنّنا بحاجة إلى الانتقال من ثقافة «تدبير الراس، ومشى حاجة، وأعطينى قهوتى».. إلى التربية على ثقافة المساءلة والمحاسبة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved